شكّل مؤشر “تخفيض العجز في الموازنة بالنسبة إلى الناتج المحلي”، التحدي الأكبر الذي يحول دون حصول لبنان على المساعدات الدولية. السبب لا يعود إلى الفشل في لجم نفقات القطاع وزيادة الإيرادات فحسب، إنما إلى رسم موازنات تنقصها الشفافية، وبجيوبٍ كثيرةٍ مخفية. وعند “قطع الحساب” دائماً ما كانت “تهان” الموازنات. وهذا ما سيتكرر في موازنة 2021 في ذروة الإنهيار.
تخفيض العجز في الموازنة من حدود 11.5 في المئة في العام 2018 إلى أقل من 4 في المئة في العام 2023 كان شرطاً من شروط مؤتمر “سيدر” لفك أسر المساعدات. ومثله يَعتبر “صندوق النقد الدولي” ان خفض الدين العام من حدود 180 في المئة من الناتج المحلي إلى 100 في المئة أو حتى أقل، شرط أساسي من شروط الإصلاح. أمّا “البنك الدولي” فيعتبر ان لبنان مهدّد فعلياً كونه من أكثر الدول مديونية في العالم. ومع هذا كله، حضّرت الحكومة المستقيلة مشروع موازنة إنفاقية إجتماعية إقتصادية للعام 2021، متوقعة لها النجاح، بعد أن فشلت في تطبيق الموازنة التقشفية التي استلمتها من سابقتها. حيث من المتوقع ان تبلغ مستويات العجز في الموازنة نهاية هذا العام مستويات خيالية غير مسبوقة، على الرغم من توقف الدولة عن سداد الديون، بعكس ما كان متوقعاً. وإذا أخذنا إنهيار الناتج المحلي إلى حدود 18.7 في المئة وتدهور سعر الصرف، وتراجع الإيرادات ونتائج انفجار المرفأ في الحسبان، فان النتائج ستكون كارثية.
العجز الهائل في موازنة 2020
كان من المقرر ألا تتخطى نسبة العجز في الموازنة هذا العام 7 في المئة من مجمل الناتج. حيث كان من المتوقع أن تصل النفقات إلى 13.1 مليار دولار والايرادات إلى 8.9 مليارات. أي ان قيمة العجز الفعلية ستبلغ 4.1 مليارات دولار من أصل ناتج مقدر في نهاية العام 2019 بحدود 56 مليار دولار. فما الذي حصل؟
تشير النتائج المالية المحققة لغاية آب من العام الحالي إلى أن الايرادات تراجعت بنسبة -26.8 في المئة عن الفترة نفسها من العام 2019. وقد انخفضت من 11097 مليار ليرة في العام الماضي إلى 8123 ملياراً هذا العام. وهذا الأمر يمكن تبريره بارتفاع نسبة إقفال المؤسسات الدائم بسبب الازمة، أو الظرفي بسبب كورونا، وتراجع نسبة الضرائب المحصلة. لكن ما لا يمكن تبريره هو الارتفاع الكبير في النفقات رغم توقف الدولة عن سداد الديون. إذ بينت الأرقام وصول مجمل النفقات لغاية آب من العام الحالي إلى 11529 مليار ليرة بالمقارنة مع 14867 ملياراً للفترة نفسها من العام الماضي. أي بتراجع نسبته فقط 22- في المئة. فالنفقات العامة لغاية آب لم تتراجع إلا بنسبة 4 في المئة فقط، في حين سجل بند فوائد الديون الخارجية انخفاضاً بنسبة -88.3 في المئة، متراجعاً من 1813 مليار ليرة لغاية آب 2019 إلى 211 ملياراً هذا العام. كما تراجع بند فوائد ديون داخلية من 3003 مليارات الى 1761 مليار ليرة بنسبة بلغت -41 في المئة. أما مجمل الإنفاق على تسديد الفوائد فقد تراجع من 4816 مليار ليرة لغاية آب 2019 إلى حدود 1973 ملياراً للفترة نفسها من هذا العام بنسبة بلغت -59.03 في المئة. وعليه فقد اعتبر وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني في حديث تلفزيوني ان “انخفاض العجز في الموازنة لغاية نهاية آب بنسبة 14 في المئة يعتبر إنجازاً . فيما لو استمرت الدولة بدفع الديون بالدولار وفوائدها المقدرة لهذا العام بحوالى 5.2 مليارات دولار لكان العجز لهذا العام أضعافاً مضاعفة عن العام الماضي.
موازنة 2021 تمويهية
في الموازاة كشف وزني ان موازنة 2021 ستكون إجتماعية وإقتصادية خالية من أي ضرائب على الطبقتين المتوسطة والفقيرة. وستتضمن: تقسيطاً وتمديداً للضرائب على المؤسسات والشركات، إعفاء الصادرات الصناعية التي تملك شهادة منشأ بنسبة 50 في المئة من ضريبة الدخل، إعفاء الاستثمارات الجديدة في القطاعين الصناعي والسياحي من الضرائب، إعفاء الشركات الناشئة من ضريبة الدخل لمدة 3 سنوات، إعفاء تعويضات المصروفين من عملهم من ضريبة الدخل، إعفاء رواتب الموظفين والمستخدمين الذين اصيبوا بانفجار المرفأ من الضريبة، زيادة النفقات الصحية الاجتماعية، الإستمرار بدفع مبلغ 400 الف ليرة للعائلات الفقيرة، بمبلغ يصل إلى 375 مليار ليرة، رصد مبلغ لشراء لقاح “كورونا”.. وعليه فان عنوان هذه الموازنة سيكون “تقسيطاً، تمديداً وإعفاءات”، بحسب وزني.
على الرغم من العنوان الجذاب والمواكب لتدابير أكثرية الدول في مواجهة “كورونا”، فان هذه الموازنة ستكون “نسخاً ولصقاً عن موازنة 2020، مع فرق شكلي وحيد هو ان السلة الضريبية ستتضمن تسويات من أجل مساعدتهم على الجباية”، بحسب رئيس جمعية الضرائب اللبنانية هشام المكمل، وذلك “بعدما عجزت الخزينة عن جمع أكثر من 40 في المئة من الواردات هذا العام”. وبالتالي فان غياب العجز عن موازنة 2021 دفترياً، سيقابلة عجز كبير على أرض الواقع نتيجة إرتفاع النفقات واستمرار انخفاض الإيرادات، واستمرار احتساب الأرقام على أساس سعر صرف 1515، في حين ان السعر الحقيقي أعلى بكثير. وبرأي مكمل فان “الدولة ستكون عاجزة في المستقبل القريب عن تسديد أجور ورواتب وتعويضات القطاع العام. خصوصاً مع الاتجاه إلى وقف تمويل الدين بطباعة النقود. أما النتيجة فمزيد من إرتفاع الدين العام والعجز وفقدان الموازنة ونتيجتها لمصداقية الأرقام التي تضعها.
القديم على قدمه
أمام هذا الواقع السوداوي ما زالت القوى السياسية ترفض الإصلاحات المباشرة وتموّهها بإجراءات قد لا تقدم ولا تؤخر على أرض الواقع. فمخصصات الرواتب والتعويضات في القطاع العام والتي تشكل ثلث النفقات العامة، لن يتم المساس بها خوفاً من “ثورة شعبية”. وما سيعالج بحسب التصاريح هو وجود 5 آلاف موظف أدخلوا في السنوات الثلاث الأخيرة بعكس قرار وقف التوظيف. وكأن المشكلة تقتصر على بضعة آلاف من الوظائف، في حين ان نسبة العمالة في القطاع العام تصل إلى حدود 30 في المئة من مجمل القوى العاملة في لبنان، بينما لا تتعدى هذه النسبة 15 في المئة في الدول المتقدمة.
في ظل الاستمرار في الموازنات المموهة وعدم توفر شروط دخول لبنان في برنامج مع صندوق النقد الدولي، فان اللبنانيين سينتقلون من مرحلة التقشف والانكماش إلى مرحلة الأكل من أكتافهم ولحمهم الحي.
Views: 5