كان من المنتظر أن يتجاوز سعر صرف الدولار العشرة آلاف ليرة قبل نهاية هذا العام. فمقابل الإنخفاض الكبير في عرض العملة الصعبة من المصادر التقليدية، إستنزف العجز الهائل في ميزان المدفوعات 9.6 مليارات دولار خلال الأشهر التسعة الأولى. ومع هذا استطاعت العملة الوطنية المحافظة على معدل صرف بحدود 8 آلاف ليرة في الأشهر الأخيرة. فهل هذا يعتبر مؤشراً على سعرها الحقيقي؟
المسار الإنخفاضي الذي أخذه سعر صرف الليرة مقابل الدولار منذ آب العام 2019 وصل إلى حده الأقصى في شهر تموز 2020 ملامساً عتبة الـ10 آلاف. ليعود ويرتفع في آب وأيلول إلى 8 آلاف ليرة على الرغم من انفجار المرفأ الكارثي. ومع بروز بوادر حلحلة سياسية وتكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، ارتفع اكثر في تشرين الأول والثاني إلى حدود 7500 ليرة. ثم ما لبث ان انخفض هذا الشهر إلى 8300 ليرة كمعدل وسطي. ليختم السنة متجاوزاً 8500 ليرة مع إقفال الأفق وتعطل كل الحلول السياسية والإقتصادية.
عوامل التأثير الإيجابية
عوامل عديدة ما زالت تؤثر إيجاباً على سعر الصرف وتحد من إنخفاض كارثي يودي بالقدرة الشرائية ويرفع معدلات التضخم إلى أرقام قياسية. “ضبط السحوبات بالليرة اللبنانية من المصارف وتحديد سقوف تنازلية لها ساهم، على الرغم من سلبياته وعشوائيته، بالحد من الطلب على الدولار”، تقول الباحثة الإقتصادية د.ليال منصور. فمعظم المودعين كانوا يلجأون إلى سحب كميات كبيرة بالليرة اللبنانية من حساباتهم على أساس سعر صرف المنصة من أجل شراء الدولار من السوق السوداء. الأمر الذي فاقم الطلب وأدى إلى انخفاض سعر الصرف بمعدلات كبيرة منذ ما قبل منتصف العام. أما اليوم ومع وجود سقوف للسحب لا تتجاوز 3.9 ملايين ليرة شهرياً في الكثير من المصارف لمعظم المودعين، و”تعمد إقفال الكثير من فروع البنوك، وتعطل الكثير من الصرافات الآلية، وفرض أخذ مواعيد لتنفيذ أي عملية مصرفية.. فان الطلب على الدولار تراجع بشكل ملحوظ”، تقول منصور.
في المقابل فان تحويلات المغتربين إلى ذويهم، سواء كانت عبر شركات تحويل الاموال أو البنوك عبر حسابات fresh account، ما زالت تساهم بشكل كبير في عرض الدولار، ولو أنها شهدت تراجعاً ملحوظاً عن الأعوام الماضية بسبب ظروف المغتربين في الخارج وتراجع القيمة الشرائية في الداخل. بحيث أصبحت كل 100 دولار مرسلة من الخارج تفوق الحد الأدنى للأجور بـ 125 ألف ليرة. وعلى الرغم من هذا، فان التحويلات الشهرية عبر الشركات تجاوزت 170 مليون دولار، وبمعدل وسطي بلغ 600 دولار للحوالة الواحدة. وبحسب منصور فان “لبنان قد يكون البلد الوحيد في العالم الذي تفوق فيه قيمة تحويلات المغتربين قيمة الاستثمارات المباشرة؛ هذا في أيام الإزدهار وتحقيق الاقتصاد نمواً كبيراً، فكيف في زمن الأزمة الاقتصادية وانعدام الاستثمارات الاجنبية بشكل كامل؟ إلا ان لهذا النوع من التدفقات النقدية آثاراً سلبية على التضخم، وتعزيز العجز في الميزان التجاري. بحيث ان 90 سنتاً من كل دولار محوّل تخرج من لبنان لتأمين متطلبات الاستهلاك. “وهذا ما يخلق تضخماً ويرفع الأسعار ويعزز الفوارق الطبقية”، بحسب منصور. “وذلك على عكس الاستثمارات المباشرة التي تساهم في زيادة الانتاج والنمو وخلق فرص عمل”.
الإعلام
شكلت البروباغندا الإعلامية، التي لا يستبعد أن تترافق مع ضخ لبضعة الملايين من الدولارات، عاملاً إيجابياً في الحد من إنهيار الليرة. فعند كل مفترق طريق سياسي تشاع اجواء إيجابية ووعود عسلية، فينخفض سعر صرف الدولار ويسرع المواطنون لبيع ما في خزائنهم خوفاً من إنخفاض أكبر، فيزداد العرض وتنخفض الأسعار أكثر، إلا إنها لا تلبث ان تثبت عند حد معين. وهذا ما لمسناه لدى تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة أخيراً، حيث لم يثبت الدولار عند حدود 7200 ليرة إلى أيام معدودة. وعلى الرغم من الآراء التي تقول ان بامكان 15 مليون دولار تغيير مجريات السوق الداخلية، فان منصور تعتبر ان “للإعلام دوراً أساسياً في التأثير على سعر الصرف. وذلك من خلال إشاعة أجواء من الأمل الزائف بقرب حلحلة المشاكل السياسية والإقتصادية. أمَّا التطبيقات الهاتفية على play store و applestore وغيرها.. فهي لن تكون لتؤثر لولا هشاشة الوضع الداخلي وضعف الليرة اللبنانية البليغ، وتأثيرها يبقى محدوداً رغم الصاق كل التهم بها.
دولار 2021
تشير جميع التوقعات العلمية والعالمية إلى ان سعر الصرف في 2021 سيتجاوز 10 آلاف ليرة بأشواط. وهو إن كان بنظر “بنك أوف اميركا” سيصل إلى 46500 ليرة، فان الخبير الاقتصادي عمر تامو توقع ان يكون 17500 ليرة. في حين أشار معهد التمويل الدولي في اكثر من تقرير ان سعر الصرف بعد رفع الدعم سيكون بحدود 14500 ليرة. وبحسب منصور فان “كل التوقعات قد تصيب. إذ انه لا سعر لليرة وهي تتأثر بشكل كبير بالمفاجآت غير المحسوبة. ولكن طالما الاصلاحات مغيبة والثقة مفقودة والتدفقات النقدية الخارجية متراجعة فان ارتفاع الدولار يعتبر أمراً محتّماً. ومما يزيد من سوداوية المشهد في العام القادم هو بدء رفع الدعم من دون إيجاد الحلول البديلة. الأمر الذي سيزيد الضغط على الأسواق الثانوية من جهة، ويرفع الاسعار من الجهة الثانية. ويكفي بحسب الاقتصاديين رفع الدعم عن البنزين أو حتى تخفيضه كي ترتفع مختلف أسعار السلع والخدمات.
يبقى الحل الشامل هو العلاج لوقف تدهور وانهيار سعر الصرف، ومن هذه الحلول التي تصر عليها منصور “اعتماد مجلس النقد أو ما يعرف بـ currency board”، وهو حل كفيل من وجهة نظرها بوقف نزيف الدولار. أما السيطرة على سرعة الارتفاع فهي تبقى بنظرها رهن العوامل الخارجية والجيوسياسية والقدرة على انجاز وتحقيق الاصلاحات المطلوبة.
Views: 5