مذ حطَّ الانهيار الاقتصادي رحاله في لبنان واللبنانيون أمام مأزق انهيار سعر صرف الليرة، وما استتبعه من غلاء فاحش، وفقر وإفلاسِ مؤسسات، وتوقُّفٍ عن ضخ رساميل في الاقتصاد، ناهيك باحتجاز ودائعهم في المصارف، وتمنّع الدولة عن تسديد مستحقاتهم في سندات اليوروبوندز، وفقدانهم أي أمل باسترجاعها. إلا أن ضغط الحراك الشعبي في الشارع والمبادرات الدولية المعوَّل عليها، منحا بعض الأمل لمجموعة من المودعين، فشكلوا في ما بينهم، تحت هذه الصفة، حراكا ضاغطا، يلتمسون من خلاله خريطة طريق للوصول الى صيغة أو آلية مع المعنيين في المصارف ومصرف لبنان كما مع الدولة تجنبهم فقدان كامل ودائعهم وجنى أعمارهم.
إلا أن اللافت في حركة “جمعية المودعين اللبنانيين” أمران: الأول ابتعادهم عن الشعبوية، وانخراطهم في حوار جدي وموضوعي مع جمعية المصارف، ومصرف لبنان، ولجنتي المال والموازنة والعدل، والثاني توصّلهم الى اقتناع يعاكس المسلَّمة السائدة لدى الرأي العام اللبناني بتحميل المصارف وحدها مسؤولية احتجاز الودائع أو فقدانها، فأيقنوا بعد لقاءات وحوارات اقتصادية، ومتابعة علمية مع سياسيين وخبراء اقتصاد ومال، بأن المسؤولية تقع على ثالوث الدولة، مصرف لبنان، والمصارف، بالتكافل والتضامن، وإنْ بنسب متفاوتة، وفق الترتيب المشار اليه.
لقد حفل عام 2020 بتحركات ونشاطات ميدانية لـ “جمعية المودعين اللبنانيين” بالتوازي مع اجتماعات مع “الخصوم والمؤيدين”، وفق تعبير رئيسها حسن مغنية، وهي في صدد تفعيل تحرّكها بعد فترة الأعياد “إذ نحضّر لتحرك ميداني قوي في هذا الشهر”. هذا التحرك لا يعني انسداد الأفق وفشل الاجتماعات مع المعنيين، بل سيواصلون عقد اجتماعاتهم مع جمعية المصارف ومصرف لبنان ولجنة المال والموازنة ولجنة العدل النيابية بالتوازي مع الضغط الميداني. هذه الاجتماعات، إنْ أفضت الى شيء، فإلى اقتناع “جمعية المودعين” بأن الضغط يجب ألا يكون على المصارف وحدها، كونها “الحلقة الأضعف بين الثلاثي الذي كان السبب المباشر لهدر ودائع اللبنانيين”، على قول مغنية، “وتالياً يجب تركيز الضغط على السلطة السياسية أولاً، ومن ثم على مصرف لبنان، ومن بعدهما المصارف. فالقرارات تصدر عن السلطة التنفيذية وينفذها مصرف لبنان، وما القرار الذي اتخذته الحكومة حيال وقف دفع سندات اليوروبوندز إلا دليل على ذلك، الامر الذي أثَّر على قرارات المصارف بحجب الدولار عن المودعين… القرارات تُتخذ عبر السلطة السياسية ممثلة بالحكومة والسلطة التشريعية، ورئاسة الجمهورية… وهذا الثلاثي يتحمل المسؤولية الأكبر عمّا يعانيه المودعون في لبنان، من دون أن ننسى تحميل مصرف لبنان وجمعية المصارف المسؤولية أيضا”.
انطلاقاً من هذا الاقتناع، فإن التحرّك الميداني للجمعية والضغط “سينصبّان في هذه الفترة على السلطة السياسة، حتى ولو تطلب الأمر منا البقاء في الشارع أكثر من شهرين، ولن نستكين قبل أن يلبّوا بعضا من مطالبنا، كتحرير جزء بسيط من ودائعنا، (أقله 3 آلاف دولار لكل مودع)، لكي يكون في مقدورنا تلبية حاجاتنا وتحريك العجلة الاقتصادية”، وهذا الأمر برأي مغنية “لن يكلفهم أعباء جسيمة، فالدعم على أنواعه يكلف حوالى 760 مليون دولار شهرياً. ولو أفرجوا مثلا عن 3 آلاف دولار لكل مودع، فإن ذلك لن يكلف أكثر من 230 مليون دولار”.
يحمّل مغنية السلطة السياسية الجزء الأكبر من مسؤولية حجز الودائع في المصارف بسبب قرارها عدم تسديد سندات اليوروبوندز، أي توقف الدولة اللبنانية عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية، ولكنه في المقابل لا يبرىء المصارف التي “يمكنها الاستعانة بموجوداتها خارج لبنان وتغذية مصارفها الأم”، مع تأكيده “أن المصارف تبدي استعدادها للمساعدة في هذا الصدد، لكنها تحجم عن ذلك في ظلّ غياب خطط إنقاذ حكومية… مع الإشارة الى أن الأزمة مستمرة منذ سنة و4 أشهر ولم يبادر هذا الثالوث، حتى اليوم، الى الإلتقاء حول طاولة واحدة لمعالجة الأزمة”.
في 28 أيار 2020، أُدرج على جدول أعمال الهيئة العامة لمجلس النواب اقتراح بفرض ضوابط على التحويلات المصرفية إلى الخارج (capital control) والسحوبات النقدية. ومع ذلك، تمكن عدد من السياسيين وكبار المودعين في المصارف من تهريب أموالهم قبل وبعد البدء بدرس مشروع في لجنة المال. ومع مرور الزمن، تحولت هذه الغاية إلى لزوم ما لا يلزم، كما يؤكد مغنية الذي يقول: “كنا مع إقرار الكابيتال كونترول بعد 17 تشرين مباشرة، لكن هذا الإجراء لم يعد ينفع حاليا، اذ في حال إقراره سيطبَّق على المواطن العادي الذي لا حول له ولا قوة”، ويضيف: “عندما أعلن آلان بيفاني أن نحو 6 مليارات دولار تم تحويلها بعد 17 تشرين لم يحرك أحد ساكنا، لا قضائيا ولا سياسياً. حتى أن التحويلات لا تزال مستمرة، ومعلوماتي تؤكد أن أحد الوزراء في الحكومة الحالية حوَّل الى الخارج مبلغا من المال لا يستهان به”.
وإذا كانت “جمعية المودعين” تحضّر لتحرك ميداني ضاغط لإجبار السلطة السياسية على اتخاذ اجراءات تفضي الى الإفراج عن ودائع الناس، فإن خلاصة اجتماعاتهم مع جمعية المصارف كانت تأكيدا للمؤكد، “إذ كان ثمة توافق على أن جزءا كبيرا من أموال المصارف وأموال المودعين محتجز في مصرف لبنان وجزءا آخر لدى الدولة اللبنانية. فالمصارف منحت الدولة ديونا بقيمة 18 مليار دولار (نحو 5 مليارات منها ستتحملها المصارف على عاتقها، وثمة 13 ملياراً موظفة في سندات الخزينة وما تبقّى من أموال موجود في مصرف لبنان)، وتاليا ليس في استطاعة المصارف استرداد الأموال، لا من مصرف لبنان ولا من الدولة”.
في المقابل، لا تعوّل الجمعية على الطبقة السياسية لمعالجة الأزمة، ويأتي هذا الاقتناع على خلفية الاجتماعات التي عقدتها الجمعية مع رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابرهيم كنعان، ورئيس لجنة الادارة والعدل النائب جورج عدوان. “فقد طلبنا من كنعان تشكيل لجنة رباعية تمثل لجنة المال وجمعية المصارف ومصرف لبنان وجمعية المودعين، فوعدنا بأن يبادر الى تشكيلها منذ نحو 5 أشهر، ولكن حتى الآن لم يتم هذا الامر. كما طلبنا من عدوان إقتراح قانون معجل مكرر يلزم الدولة اللبنانية باعادة أموال المودعين ضمن مهلة زمنية محددة، فأدخلنا هو أيضا في نفق التدقيق الجنائي. استنتاجنا أنهم يريدون إدخال المودعين في زواريبهم السياسية وتصفية حسابات بين بعضهم البعض، لا علاقة لنا بها كمودعين”.
ويشير مغنية في هذا الصدد الى جمعية أخرى ممثلة لفئة أخرى من المودعين زارت رئيس الجمهورية ميشال عون، و”لم نعرف نتائج زيارتها حتى اللحظة، علماً أننا نرفض رفضاً قاطعاً البيان الذي صدر عن الرئاسة عقب هذا الإجتماع، كونه يربط مصير استعادة ودائعنا بالتدقيق الجنائي والمفاوضات مع صندوق النقد وغيرها، وهو أمر مستغرب ومستهجن كوننا كمودعين لا دخل لنا بهذه الأمور”.
وفيما الاتجاه السائد إعلاميا يقضي بتوزيع الخسائر بين الدولة والمصارف والمودعين، يرفض مغنية البحث في هذا الخيار، “لسنا على استعداد للتخلّي عن دولار واحد من ودائعنا. وقد استطعنا منذ سنة حتى اليوم توعية المودعين وإقناعهم بعدم سحب ودائعهم إن كانت بالليرة أو بالدولار (إلا إذا كانوا مضطرين الى ذلك)، لكي لا يقوموا بإجراء “هيركات” طوعي على ودائعهم بما يسمح للمصارف والدولة ومصرف لبنان بإطفاء خسائرها على حساب المودعين”. ويضيف: “في شهر 11/2019 كانت ودائعنا تقدر بـ 142 مليار دولار، وهي اليوم تقدر بنحو 104 مليارات دولار، ما يعني أن ثمة نحو 38 مليار دولار خرجت من المصارف على شكل سحوبات أو تحويلات مهربة الى الخارج”. وإذ يعتبر أن “إطالة الأزمة تصب في مصلحة المصارف والدولة ومصرف لبنان وليس المودعين”، يؤكد مغنية أن “البطالة اليوم هي في أعلى درجاتها فيما القطاعات تنهار الواحد تلو الآخر، ما قد يدفع الناس الى أسوأ الخيارات، أي الرضوخ وسحب ودائعهم بالدولار بسعر 3900 ليرة”.
Views: 6