نعيش اليوم في مرحلة تحاول فيها القوى المعادية إضعاف دولتنا بكلّ الوسائل الممكنة ونشر الكراهية بين أبناء شعبنا ضد دولتهم ومؤسساتها وجعلها هي العدو بدلاً من قوى الاحتلال والعدوان والحصار والعقوبات.
حين بدأت الدولة السورية تسمح للأساتذة والمربين بفترة إعارة من وظائفهم إلى دول الخليج كان الهدف من هذا القرار تمكين أبناء الخليج من اللغة العربية ورفدهم بالكوادر التي كانوا بأمس الحاجة لها في مدارسهم وجامعاتهم انطلاقاً من المعيار العروبي الصافي الذي كان يقيناً لدى الرئيس الراحل حافظ الأسد، وسُمح للأستاذ الجامعي وأستاذ المدرسة بفترة “إعارة” لمدة 4 سنوات لأي بلد من بلدان الخليج لهذا السبب.
ولكنّ ما حدث في الوقت ذاته هو أمران في غاية الخطورة: أولاً أن الأساتذة المتيّمين بحبّ اختصاصاتهم قد اكتشفوا في هذه السنوات طعم الدولار وبدأ لدى البعض منهم اللهاث لجمع المزيد والمزيد، حيث لا يوجد سقف محدد لمن تنفلت شهوته لاستحواذ مادي لا يعرف حدوداً.
والأمر الثاني هو أن دوائر عليا خارجية قد تنبهت إلى أهمية الخليج في إفساد الإعلام والثقافة العربيتين فوضعت خططها وثقلها لتصميم ونشر إعلام وثقافة مرتهنة للآخر ومنسلخة عن جذورها العربية ومنغمسة في ترجمة البرامج التي لا تمت إلى الواقع العربي بصلة من أجل تغريب الشباب وحرفهم عن قضاياهم الأساسية.
أما الأساتذة والكتاب والمبدعون والمفكرون فقد قُدّمت لهم إغراءات كثيرة استبدلوا من خلالها صوفيتهم المهنية العروبية بحيازة بعض الدولارات والبيوت والعيش على الإنتاج الفكري الذي أنجزوه قبل أن يخوضوا هذه التجربة القاتلة. وقد كان لي حديث مطول مع الأستاذ الدكتور حسام الخطيب منذ ما يزيد على 10 سنوات حيث كان يدرّس في إحدى دول الخليج وحينها قال لي: ” لقد تم استبدال كلّ المناهج العربية بمناهج أجنبية واتُّخذ القرار بأن لا حاجة إلى اللغة العربية في عصر تسود به اللغة الإنكليزية في العالم وتمّ القضاء على كل جهودنا في التعريب وتعزيز دور اللغة العربية والذي هو الهدف الأسمى من وجودنا هنا”، وأضاف: “ألم تلاحظي أن مال الخليج يطفئ أي موهبة تصله أو يحرفها عن مسارها بحيث تخدم أجندته المرسومة بأيادٍ خفية بدلاً من أن يمارس دوره في تنشئة الأجيال تنشئة عروبية ولغوية صافية، وهو المفروض أنه الهدف من وجودنا هنا؟”.
وهكذا فإن المال الخليجي استقطب ولعقود خلت المواهب الثقافية والفنية والتعليمية؛ فإما أنه سخرها لخدمة أجندات مرسومة له سلفاً أو عمل على إشغالها بما ليس في مجال اختصاصها طمعاً بمراكمة الثروات وأبواب ميسّرة للهجرة إلى كندا أو الولايات المتحدة أو سواها.
وتكاثرت الفضائيات ووسائل الإعلام الخليجية بشكل غير مسبوق، بحيث أصبح الإعلام الخليجي يمثل ما يفوق 80% من الإعلام العربي برمته، وغدا مؤثراً في كل أنحاء الوطن العربي وخاصة في جيل الشباب، أي أنه تمّ استثمار البترودولار لحرف الثقافة العربية الأصيلة عن مسارها، وبدلاً من تعريب الدول الخليجية انتهى الأمر إلى خلجنة وصهينة وشيطنة الدراما والثقافة والإعلام والفن والفكر العربي.
وكان أول نذير شؤم حقيقي للجميع هو استخدام هذا الإعلام وبكلّ أدواته، أولاً ضد العراق والشعب العراقي لتبرير تدميرهما وفتح حكام الخليج أرض العروبة لتنطلق منها الطائرات الأميركية لقصف بغداد وتدمير العراق، وثانياً في مرحلة ما أسموه بـ “الربيع العربي”، وهو جدير أن تتم تسميته بالنكبة العربية الكبرى، حيث تمّ استخدام هذا الإعلام للتشدّق بحقوق الإنسان والحرية وتوصيف ثوراتٍ تمّ تصنيعها في قوالب الأعداء والخصوم من أجل إضعاف وتفتيت دول عربية كانت تاريخياً هي الحاضنة الأساس للقضايا العربية والمناهضة للصهيونية والاحتلال والمطالبة بالحقوق حتى تحرير آخر ذرة تراب عربية.
وبدأ الحديث عن حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية من فضائيات إعلام مموّل من مشيخاتٍ هي مثال للاستبداد، وأخذت بعض هذه الدمى التي تغذّت وكبرت على الفتات الخليجي تضع نفسها على خارطة القامات الهامة وتدّعي الحرص على الأوطان والوعي بمعرفتها الأعمق بمصلحة هذه الأوطان.
وهكذا فقد انتزعوا من الأدوات التي ترعرعت على أطباقهم سيوفاً يوجهونها إلى قلوب العرب في الدول المقاومة ويغذون من خلالها الحقد والكراهية ومحاولة إثارة الفتن الطائفية والعرقية.
وطبعاً كان هناك انسجام مطلق في هذا الصدد بين الدور الخليجي والغربي للترويج لإنتاجات أشخاص بعينهم والارتقاء بهم إلى مستوى العالمية لأنهم يخدمون خطاً معيناً لا علاقة له بالوطنية الصافية والحريصة على قوة الدولة وحصانة الداخل من أجل خوض معركة التحرير ورفد محور المقاومة بكلّ أسباب القوّة.
لقد كانت الحرب على تونس وليبيا وسوريا واليمن حرباً إعلامية أولاً، تَشارَك بها إعلامُ الخليج مع الإعلام الغربي الصهيوني في بث الشائعات والأكاذيب وتعطيل إمكانية التوصل إلى حقيقة ما يجري في الساحات العربية، من تنفيذ مخططاتٍ هدفها إضعاف وتفتيت الدول العربية، بحيث يصل الصهيوني إلى ما وصل إليه من تطبيع وتحكّم بمقدرات بعض العرب ومستقبلهم، وتحريض الشباب ضدّ حكوماتهم ومؤسسات دولهم.
في ظلّ هذا التاريخ المشوّش والمشبوه لمسيرة العلاقة الخليجية بالعروبة وخطف الثقافة والإعلام وتكريسهما لخدمة أجندات إسرائيلية تلحق ضرراً بعيد المدى بالانتماء العربي وأدواته الأساسية، من لغة وفكر وثقافة وإبداع، لابدّ لنا من مراجعة عميقة وشفافة لما حلّ بنا وبمن يعتبرون أنفسهم نخباً عربية معنية بمصير بلدانهم ومستقبل أجيالهم.
في ضوء ما تقدّم لابدّ لنا أن نبدأ مرحلةً جديدةً نتفق خلالها على معايير حصيفة ومرجعيات وطنية واضحة تخلّصنا جميعاً وتخلّص بلداننا من هذا اللغط الذي ساد ثقافتنا وبلداننا لعقود، وكانت نتائجه كارثية علينا جميعاً.
ومن أجل ذلك لابد من الاتفاق على أن تنصيب قامات مهنية في أعلى السلم من قبل البعض لا يجعل من هذه القامات بالضرورة قامات وطنية لأن القامات الوطنية لها معاييرها في ميزان البلاد وفي ضمير الشعوب؛ فليس كل إنسان ذو شعبية روّجت له الفضائيات الخليجية المتصهينة أو حصل على جوائز نفطية ملوثة أو تم الترويج له وتبنيه بطريقة أو بأخرى من قبل الإعلام الخليجي المتصهين، حتى وإن وصل إلى العالمية، ليس بالضرورة قامة وطنية إلا إذا استثمر مكانته ومعرفته لخدمة وطنه وأمته وعروبته.
ولهذا فإن بعض الرموز التي صمتت عن، أو ساهمت مباشرة، بالدعوة إلى قصف سوريا وتعاونت مع الشيطان ومع أعداء وخصوم سوريا على تدمير منشآتها وقتل أهلها ليس لها من الوطنية شيء على الإطلاق، خاصة وأن ارتهان البعض لما يريده منهم الأعداء يرشحه فوراً لنيل أعلى الجوائز العالمية ويصبح أيقونة في أنظارهم، لأنه يمهد الطريق لهم للفتك ببلده وشعبه.
إذاً، وبعد كل ما اعترى بلداننا من ظلم وقهر وحصار خانق لابد لنا أن نحدّد مرجعية وطنية فقط، وليس مرجعية إعلامية متصهينة تستهدفنا منذ عقود، ولا شك أن هذه المرجعية تبدأ من تقديس الشهادة في سبيل الوطن والوفاء المطلق للشهداء والجرحى والأسرى والمختطفين وشعبنا في المناطق المحتلة من وطننا وأُسر المقاتلين والمفقودين، وكلّ من لا يقيم وزناً لهذا المبدأ وهذه المرجعية ليس له في التصنيف الوطني نصيب.
نحن نعيش اليوم في مرحلة تحاول فيها القوى المعادية إضعاف دولتنا بكلّ الوسائل الممكنة ونشر الكراهية بين أبناء شعبنا ضد دولتهم ومؤسساتها وجعلها هي العدو بدلاً من قوى الاحتلال والعدوان والحصار والعقوبات، لأنهم يدركون أن الدولة القوية هي الضمانة لمستقبل أجيالها.
وهذا لا يبرّر أبداً الأخطاء والتجاوزات التي قد تُرتكب بل على العكس هذه دعوة لقوّة مؤسسات الدولة وحصانتها، والتي تضع حداً لكل التجاوزات المؤذية لها ولمواطنيها.
ولابدّ من التفكير ملياً بأن المرجعية الفكرية والوطنية والثقافية والأخلاقية هي الأساس، وبدون هذه المرجعية والثقافة يصبح الإنتاج الفكري والثقافي كشخص هائم في الصحراء عطشاً لا يعلم إلى أين يتجه ومن أين يحصل على شربة ماء، بل قد يتحول إلى خنجر يطعن شعبه ووطنه.
المرجعية الوطنية هي الضامن الأساس للارتقاء بالفكر والثقافة والفن والإعلام وتحصين البلاد لما فيه خيرها وازدهار مستقبلها ومستقبل أبنائها بعيداً عن حملات التضليل الصهيونية المرسومة والمستهدفة لوجودنا جميعاً
Views: 7