موجة بيع بعض فروع أو موجودات مصرفية لبنانية في الخارج ليست كلها ظاهرة غير صحية، برغم ما تدلّ من علامات المحنة المصرفية والمالية التي يمرُّ بها لبنان.
والوجه الإيجابي ان المنظومة المصرفية المتوسطة والصغيرة القوية والمليئة بالموجودات والسيولة الكافية، و«الممسوكة» بإدارة حكيمة وحوكمة رشيدة، أفضل من «امبراطورية» مصرفية عالمية معرّضة للاهتزازات والنكسات والهجمات. وقد اشتهر القول عن الراحلة مرغريت تاتشر «ان بريطانيا العظمى لم تتخلّ يوما عن الحوانيت أمام عمالقة الـ «هايبر ماركت» وما زالت حتى اليوم بلد الدكاكين في الأحياء الصغيرة»، فقد كانت هي ابنة بقال دكانه تحت المنزل. وعندما انتقلت للسكن في مقر مجلس الوزراء قالت: ها قد عدنا: المنزل فوق و«الدكان» تحت في ١٠ داوننغ ستريت.
وكما يقال لكل عهد دولة ورجال، لكل مرحلة أيضا مصارفها من حيّث الحجم والتوسّع والانتشار في الداخل والخارج. فعندما اندلعت حرب الـ ١٥ عاما اضطرت المصارف اللبنانية للتوسّع في بعض البلدان العربية، ومع اهتزازات واضطرابات الأمن والسياسة زاد العدد الى حوالي ٣٠ بلدا عربيا و١٠ بلدان أوروبية وبلدين آسيويين و٤ بلدان أفريقية. والآن مع اشتداد الأزمة المصرفية والنقدية منذ العام ٢٠١٩، تضطر المصارف اللبنانية الى اعتماد مبدأ «داروين» في النشوء والارتقاء بأن «التكيّف شرط البقاء»، وذلك بالتخلّي عن جزء من موجوداتها الخارجية المتمثلة لدى المصارف الـ ١٤ الأولى بحوالي ٢٠% من إجمالي الموجودات و٢٨% فروع خارجية من إجمالي الفروع و١٥% من إجمالي الأرباح، ولكي تصبح أكثر قدرة على تنفيذ موجبات تعاميم مصرف لبنان، وفي طليعتها الالتزام خلال مدة أقصاها نهاية شباط المقبل بتأمين ملاءة Adequacy ١٠% وزيادة الرأسمال بـ٢٠% وإيداع ٣% من مجموع الودائع لديها في حسابها لدى المصارف المراسلة الخارجية لتغطية الاعتمادات الاستيرادية المستندية والكفالات المالية، ووضع مؤونة Provision على قيمة ما تملكه من اليوروبوندز.
وأمام المصارف غير القادرة على الامتثال لهذه التعاميم أن «تحزم حقائبها» وتحيل مؤسساتها الى مصرف لبنان كي يعمل على إدماجها بمصارف أخرى. فيما المصارف الأخرى قادرة على الامتثال عبر زيادة المساهمات أو خفض النفقات بتحجيم عدد فروع داخلية أو بيع فروع أو حصص ومشاركات ومساهمات خارجية.
والمعلومات حتى الآن أنه من أصل ٦٤ مصرفا تجاريا (أو استثماريا وإسلاميا) حوالي ٤٤ مصرفا قد يتمكن من الالتزام… إلا إذا مدّد مصرف لبنان المهلة لفترة تسمح لغير القادرة حتى الآن على الالتزام، بتأمين رساميل إضافية من قبل مساهمين حاليين أو إضافيين.
علما ان إدارات بعض المصارف أبدت تحفّظات منها: كيف يمكن زيادة الرساميل في وقت تتعرّض الرساميل الحالية للشطب بموجب خطة الحكومة التي احتسبت فجوة الخسائر المالية بطريقة لا تبقي للمساهمين الحاليين في المصارف أي رساميل، وهي الخطة الداخلة في جدال ضمن لجنة المال والموازنة وبين الحكومة والمصارف لم يحسم حتى الآن بانتظار عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي من ضمن بنود الورقة الفرنسية وشروط صندوق النقد الدولي، مع إجراءات إصلاحية أخرى مشكوك بإمكانية أو نيّة الحكومة تحقيقها منها: ضبط الموازنة وتقليص الدين العام وترشيد النفقات وخفض العجز السنوي وتحجيم القطاع العام ووقف الفساد وبدء إصلاحات سياسية واقتصادية ومصرفية ومالية وقضائية ينتظرها اللبنانيون على طريقة.. «عالوعد يا كمون»!
Views: 0