منذر سليمان
مراوحة الخطاب السياسي الأميركي بين التصعيد اللفظي والدعم الثابت لخطط الإنفاق العسكري تشير إلى وجود نيّة لشنّ مواجهة مع الصين تلعب فيها واشنطن على حافة الهاوية من دون أن تنزلق منها.
دشّن الرئيس الأميركي جو بايدن مطلع ولايته الرئاسية بتصعيد الخطاب المعادي للصين وروسيا، فأنعش معسكر الصقور التقليدي في الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، لتناغمه مع غريزته العدائية للبلدين، وكوفئ بالرضا والدعم الداخلي في أركان المؤسَّسة الحاكمة. وكان لتوصيفه الرئيس الروسي بـ”القاتل” تأثيره الفوري على صعيد تأزيم العلاقة المتوترة أصلاً مع روسيا، ليقضي بذلك على إمكانيّة عودة أجواء الانفراج معها في المدى المنظور.
انجرّت معظم النخب السياسية والفكرية النافذة في مفاصل الدّولة الرئيسيّة وراء نغمة العداء المتجدّدة، وخصوصاً تلك المرتبطة بالمصالح مع كبريات شركات الصناعات العسكريّة. وربما انفردت مؤسَّسة “راند” العريقة بتحذيرها البيت الأبيض من أنَّ سياساته “للاتجاه شرقاً نحو الصين بدأت متعثّرة”، مقابل شبه إجماع على التصعيد الخطابي والتحشيد الإعلامي ضد القوى الآسيوية الصاعدة (مؤسَّسة “راند”، 15 آذار/مارس 2021).
التقى وفدان رفيعا المستوى من الجانبين الأميركي والصيني يوم 18 آذار/مارس الجاري في مدينة آنكوريدج في ولاية ألاسكا، بدعوة من واشنطن، لبحث القضايا الخلافية الرئيسية بينهما، نتيجة محادثة هاتفية أجراها الرئيس جو بايدن بنظيره الصيني شي جينغ بين بمناسبة رأس السنة الصينية.
الأجواء السياسيّة بين البلدين شهدت تصعيداً متبادلاً مطلع شهر شباط/فبراير الماضي، بدأ بتصريح الرئيس بايدن بأن الصين تشكل “أكبر منافس جدّي” للولايات المتحدة (4 شباط/فبراير)، والذي أتبعه بتصريح لبرنامج “فيس ذا نيشن” لشبكة “سي بي أس” يقول فيه: “ليس من الضروري أن تخطّط البلاد لنزاع (مع الصين)، لكن ما نراه هو علاقة طابعها التنافس الشديد” معها (7 شباط/فبراير).
وقد أتبعه في الليلة ذاتها بمكالمة هاتفية مع الرئيس الصيني شي جينغ بين استمرّت نحو ساعتين من الزمن، وصفها كبار المسؤولين بأنَّها كانت عاصفة، لكونها شملت “سجلّ الصّين في حقوق الإنسان في مقاطعة شين جيانغ، وكذلك مسألة هونغ كونغ”، وتوّجها بلقاء الرباعية، أميركا وأستراليا والهند واليابان، في 12 آذار/مارس الجاري، للتوقف عند موقف موحّد لمواجهة “البحرية الصينية”.
علّقت مؤسَّسة “راند” على مساعي الإدارة بالقول: “تصعيد الخلافات بين الولايات المتحدة والصين أضحى السمة الطاغية في أروقة البنتاغون وكل المكاتب الملحقة بمجلس الأمن القومي، ومن شأنه تعقيد مسار مراجعة” العلاقات الثنائية التي عبَّر عنها الجانبان، وخصوصاً الجانب الصيني، على لسان وزير الخارجية وانغ يي، على هامش دورة مجلس الشعب الصيني يوم 7 آذار/مارس الجاري، معرباً عن أمله في أن تؤدي “مراجعة التعاون إلى تمكّن الصين والولايات المتحدة من التوصل إلى تغيير إيجابي، بدءاً من مسائل المناخ وصولاً إلى العلاقات الثنائية”.
تميّزت الجلسة الافتتاحية في ألاسكا بتشنّج كلمات الجانبين، وخصوصاً رد الوفد الصيني على كلمة وزير الخارجية أنتوني بلينكن لدى إثارته قضايا مقاطعة “شين جيانغ وهونغ كونغ وتايوان والهجمات السيبرانية”، لاعتباره أنَّ كلاً منها على انفراد “تشكل تهديداً للنظام الدولي الراهن القائم على سلطة القانون لإدامة الاستقرار العالمي” (نص الجلسة الافتتاحية الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية، 19 آذار/مارس الجاري).
وبحسب التقارير الصّحافية، “ردت الصين على اتهامات أميركا في عقر دارها”، على لسان عضو وفدها ومدير الشؤون الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، يانغ جي شي، موجهاً كلامه إلى وزير الخارجية الأميركي، قائلاً: “ما ينبغي لنا فعله هو التخلي عن عقلية الحرب الباردة والمعادلة الصفرية”، مقارنة بالسياسة الصينية التي “تستند إلى التطور السلمي، وإعلاء دور الأمم المتحدة المركزي في النظام العالمي، وتعزيز القانون الدولي لضمان المساواة والعدل والاحترام المتبادل، لا كما تطالب بضع دول بتبنّي نظام عالمي يستند إلى سلطة القانون” (النصوص أعلاه مستقاة من بيان الخارجية الأميركية).
ولم يغب عن وسائل الإعلام الأميركية تصعيد يانغ جي شي ردّ بلاده على التدخلات الأجنبية، مخاطباً الوفد الأميركي مباشرة لنحو 15 دقيقة: “في ما يخصّ (مقاطعة) شين جيانغ وتايوان، فإنهما جزء ثابت من الأراضي الصينية، والصين تعارض بشدة تدخل الولايات المتحدة في شؤونها الداخلية”. وأضاف المسؤول الصيني: “لقد عبّرنا عن معارضتنا القوية لذلك التدخل، وسنتخذ إجراءات مشددة رداً عليها” (المصدر أعلاه نفسه).
يُشار إلى أنَّ السياسات الأميركية نحو الصين، وعلى امتداد الإدارات المتعاقبة منذ ولاية الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، التزمت بما يُسمى سياسة “الصين واحدة”، مع تباين في التطبيقات المرحلية، حتى عهد الرئيس السابق دونالد ترامب وتسليحه تايوان بمعدات عسكرية متطورة بلغت قيمتها 5 مليار دولار للعام 2020، تضمَّنت 66 مقاتلة من طراز “أف-16″، وصواريخ “هاربون” المتطورة للدفاع عن الشواطئ، ونُظماً متحركة لإطلاق الصواريخ، وقطعاً أخرى، على رأسها قاذفات إطلاق صواريخ “ستينغر”.
كما شاطره الرأي عضو الوفد ووزير خارجية الصين وانغ يي، بلغة دبلوماسية مهذبة وصريحة، قائلاً: “الصين تحث الجانب الأميركي على التراجع التام عن سلوكه في الهيمنة والتدخل الإرادي في الشؤون الداخلية للبلاد. مع تصعيد الولايات المتحدة لما يُسمى عقوباتها على الصين على خلفية هونغ كونغ، فإن الشعب الصيني يشعر بالغضب إزاء ذلك التدخل السافر في شؤونه الداخلية، والجانب الصيني يعارضه بحزم” (المصدر نفسه).
بناءً على تلك التطوّرات المحوريّة، نحن أمام سياسة أميركية تعدّ في جوهرها امتداداً لسياسات الهيمنة السابقة وإعلاء شأن خطاب التصادم والانتشار العسكريّ في كلّ أرجاء المعمورة الغنية بالموارد الطبيعية، تجسّدها السلطة التشريعية الأميركية بمواصلة خطاب التّصعيد والعزف على أوتار مشاعر القلق من “الصين وروسيا”، وهو ما يُترجم لاحقاً بمزيد من الإخفاقات العسكرية، جزء مهم منها يأتي من خارج بنود الميزانية الرسميّة المقررة.
المواجهة العسكرية المباشرة بين واشنطن وبكين في عُرف بعض مراكز القوى هي احتمال وارد وينبغي الاستعداد له، بيد أنَّ القلة من مستشاري مراكز الأبحاث يعتبرون نشوب “حرب بسبب تايوان أمراً غير وارد في الأفق، فالقدرات (العسكرية للصين) تطوّرت إلى مرحلة لم تعد فيها محطّ تكهّن أو معضلة باستطاعتنا تجاوزها” (نشرة بوليتيكو، 16 آذار/مارس الجاري، نقلاً عن الباحث إيريك سايير في “معهد المشروع الأميركي”).
وأضافت “بوليتيكو” نقلاً عن مسؤول رفيع في البنتاغون: “الصين توصّلت إلى بناء أسطول حربي ذي انتشار عالمي لمهام إقليمية. لا توجد في جعبتنا قدرات موازية لمواجهة الصين، كما كان متاحاً لنا في السابق”، مستطرداً أن أي مواجهة حقيقية معها نتيجة الموقف من “تايوان، ستكون الخسارة فيها للجانب الولايات المتحدة” التي ستتلقى هجمات صاروخية، وبأسلحة بيولوجية، ضد قواعدها العسكرية وسفنها الحربية. وما سيشلّ قدرة الرد الأميركي هو هجوم برمائي من الصين على تايوان، وتكبيدها خسائر بشرية عالية، وكذلك تدمير شامل في نُظم السلاح.
في سياق التصعيد الأميركيّ، حذّر نائب مساعد وزير الدفاع للعمليات الخاصّة، كريستوفر ماير (منصب مدني للإشراف على أداء القيادات العسكرية)، لجان الكونغرس المختصّة، الأسبوع الماضي، من أن بلاده تتخلف عن مواكبة “روسيا وإيران والصين في قطاع حرب المعلومات”، وينبغي تجنيد مرشحين في مختلف اللغات العالمية، حاثاً على المزيد من الاستثمار في “احتياجات القوات العسكرية” لمعالجة الخلل والتفوّق به على خصومها (نشرة “ديفينس وان”، 17 آذار/مارس 2021).
بمبادرة من الكونغرس مطلع العام الجاري، استحدثت القيادة العسكرية الأميركيّة برنامج “مبادرة الردع في المحيط الهادئ”، لتعزيز حضور أساطيلها البحرية، ومطالبتها الكونغرس بتخصيص نحو 4.6 مليار دولار للسنة المقبلة للإنفاق على الصواريخ الباليستية والصواريخ الأسرع من الصوت، ووضعها في مناطق قريبة من الأراضي الصينية، ورصد نحو 23 مليار دولار لمواجهة الصين في الموازنات السنوية المقبلة الممتدة من العام 2023 إلى العام 2027 (نشرة “يو أس نيفي نيوز” 2 آذار/مارس 2021).
وتناغم مدير الاستخبارات العسكرية، نيل تبتون، مع توصيف ماير، مؤكّداً أن وزارة الدفاع “تعكف على إعادة إنشاء الذاكرة المعزّزة بالقوة العضليّة التي لم نشهد مثيلاً لها منذ عصر الحرب الباردة”. كما أكَّد ضابط جهاز الاستخبارات العسكرية، جيمس سوليفان، للجان الكونغرس أنّ “روسيا تتفوَّق علينا الآن بصورة واضحة في عمليات نظم المعلوماتية. بدورها، ستنمو الصين صعوداً إلى مرتبة متفوقة موازية لميزتها، باستخدام لغة برمجة الآلة والذكاء الاصطناعي بوتيرة أسرع من الجانب الروسي”.
مراوحة الخطاب السياسي الأميركي بين التصعيد اللفظي والدعم الثابت لخطط الإنفاق العسكري تشير إلى وجود نيّة لشنّ مواجهة مع الصين تلعب فيها واشنطن على حافة الهاوية من دون أن تنزلق منها، معوّلة على تحمّل “حلفائها” الآسيويين، أستراليا واليابان والهند، تداعيات أيّ مواجهة محتملة، بعد استحداثها “حلف الرباعية” الجديد. كما تشير إلى نغمة إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية في مرحلة تدرك تماماً أنها في حالة تراجع وانكفاء تغطيها بإشراك آخرين في تحمل أعبائها وأهوالها التدميرية، إذا اندلعت المواجهة ووصلت إلى مرحلة متقدّمة.
تبدو إدارة بايدن كأنها تسير عكس ادعاءاتها بعودة النشاط الدبلوماسي وإصرارها على استخدام لغة دبلوماسية الحرب الباردة وأكثر. وعلى الرغم من خبرة بايدن في السياسة الخارجية، وخبرة طاقمه الذي خدم في إدارات سابقة، فإنّ نزعة التمظهر بالقوّة تتغلب عليه، تعويضاً عن الاتهامات الموجهة إليه بضعف موقفه داخلياً.
كما يبدو جليّاً في خطواته الأولى مع الصين وروسيا أنه وطاقمه يتنكران لحقيقة أنّ مكانة أميركا ودورها إلى تراجع. وبدلاً من التكيف مع بروز قوى عالمية كابحة للتفرد والهيمنة الأميركية، يستمر في سياسة تتغنى باستثنائية أميركا التي عفا عليها الزمن، ولن يطول الوقت ليكتشف أنَّ الادعاءات بالتفوّق والقوّة عبر الخطب والتصريحات النارية لن تكون بديلاً من اعتماد سياسة واقعية تعترف بالمتغيرات الدولية التي تفرض تفاهمات حقيقية ومساومات ضرورية مع خصوم ومنافسين دوليين تتنامى قوتهم وتتعزز قدراتهم لصياغة نظام دولي جديد أكثر عدلاً ومشاركة.
المصدر: الميادين نت
Views: 2