حلم عودة أميركا للهيمنة على العالم دونه عقبات عدّة أبرزها استعادة الثقة بين ضفتي الأطلسي بعد أن دمرها ترامب بسياساته الشعبوية الضيّقة.
أعلن الرئيس الأميركيّ جو بايدن في مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط/فبراير الماضي أنَّ “أميركا عادت”، وكرَّر العبارة ثلاث مرات، للتأكيد لحلفائه الأوروبيين أنّ الولايات المتحدة الأميركية ستعود إليهم، وستعود إلى قيادة العالم الغربي، تمهيداً لإعادة الهيمنة الأميركية على العالم.
لا شكّ في أنَّ بايدن، وخلال فترة وجيزة، استطاع أن يعيد سياسة الولايات المتحدة الخارجية إلى سياقها التقليدي قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض، فعاد إلى الانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ ومنظّمة الصحة العالمية، وعطّل قرار ترامب لسحب القوات الأميركية من ألمانيا، وقام بتمديد معاهدة “ستارت” الجديدة للأسلحة النووية مع روسيا، وعاد إلى طاولة المفاوضات للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وكشف عن نتائج التحقيقات في قضية خاشقجي، وأعلن عزمه على إنهاء الانخراط العسكري في اليمن… كذلك، عاد إلى سياسة واشنطن التقليدية، كما كانت في سابق عهدها أيضاً، باتخاذ إعلانات حقوق الإنسان وحماية المعارضين ذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى أو لفرض عقوبات على معارضي السياسة الأميركية.
وعلى الرغم من التَّصحيحات التي تقوم بها إدارة بايدن لما يسمّيه الأميركيون “التخريب” الذي قام به ترامب وإدارته في الخارج، فإنّ الأوروبيين يبدون عاجزين عن السير مجدداً بالطاعة وراء الولايات المتحدة الأميركية، التي تبيّن أنها ابتعدت عن النمط المؤسساتي في صناعة السياسة الخارجية، وباتت محكومة بإرادة الرئيس الذي يتغيّر كل 4 سنوات.
ويبدو أنّ القادة الأوروبيين الذين لم يبدوا حماسة لخطاب بايدن خلال مؤتمر ميونيخ، يتناغمون فعلياً مع توجه أوروبي عام بدأ بالظهور من خلال استطلاعات الرأي، نعرض أبرز ملامحه في ما يلي:
– أميركا محطَّمة سياسياً ولا يمكن الاعتماد عليها
في استطلاع حديث للرأي أجراه “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية”، ظهر أنَّ معظم الأوروبيين ينظرون إلى الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها “محطّمة سياسياً”، ومن المرجّح أن “تتفوّق عليها الصين قريباً كقوة عالمية”.
كما دعت غالبية المستطلعين الدول الأوروبية إلى “المزيد من الاعتماد على الذات”. وكانت نسبة 60% على الأقل من المشاركين في كلّ بلد شمله الاستطلاع – ومتوسط 67% في جميع تلك البلدان – أعلنت أن الأوروبيين “لا يستطيعون الاعتماد دائماً على الولايات المتحدة للدفاع عنهم”، وبالتالي هم “بحاجة إلى الاستثمار في الدفاع الأوروبي”. واللافت للنظر أنَّ 74% من البريطانيين الذين شملهم الاستطلاع يؤمنون بهذا الرأي، وهي أعلى نسبة بين الدول الأوروبية التي تمّ استطلاع آراء مواطنيها.
– الحياد في حرب الولايات المتّحدة ضدّ الصين
وضمن استراتيجيّة “عودة أميركا”، دعا بايدن الدول الأوروبية للانضمام إلى الولايات المتحدة لتشكيل جبهة موحّدة ضد الصين، وبالتالي القيام باحتوائها ومنع صعودها العالمي. وبعدما أعلنت المفوضية الأوروبية في كانون الأول/ديسمبر 2020 أنَّ الاتفاقية الشاملة للاستثمار (وهي صفقة استثمارية مقترحة في العام 2013 بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الأوروبي) تمّ إبرامها من حيث المبدأ من قبل قادة مجلس الاتحاد الأوروبي، وباتت بانتظار مصادقة البرلمان الأوروبي، حصلت ضغوط هائلة من قبل الأميركيين على حلفائهم الأوروبيين لعدم إقرار الاتفاقية في البرلمان الأوروبي، وهو ما رضخوا له، متذرّعين بأن هذا التأخير سببه سلوك الصين “غير المقبول” تجاه أعضاء البرلمان واللجنة السياسية والأمنية التابعة للمجلس الأوروبي ومراكز الأبحاث الأوروبية.
ولكنَّ البرلمان الأوروبي لا يعكس فعلياً نظرة المواطنين الأوروبيين وموقفهم من التحالفات الجيوسياسية بين ضفتي الأطلسي، فقد أظهر الاستطلاع نفسه الذي أجراه “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية”، أنه، في أوروبا اليوم، “لا يوجد حلم بالعودة إلى عالم ثنائي القطب يواجه فيه الغرب الصين وحلفاءها، كما فعل في السابق ضد الاتحاد السوفياتي”.
تتقاطع هذه النتائج مع استطلاع أوروبي شامل قام به المركز نفسه في وقت سابق في العام 2019، إذ ظهر أن الغالبية العظمى من المشاركين (في جميع البلدان التي شملها الاستطلاع) يفضلون البقاء على الحياد في أيّ نزاع قد يحصل بين الولايات المتحدة والصين أو بين الولايات المتحدة وروسيا. يسود هذا الاتجاه في الدنمارك وبولندا أيضاً؛ الدولتين اللتين تسجلان أعلى نسب من الأشخاص الذين يرغبون في الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة: 35% و30% على التوالي.
في الخلاصة، يبدو أن حلم عودة أميركا للهيمنة على العالم، والذي وضعه بايدن ضمن أولوياته، والذي يفترض في الدرجة الأولى تكريس الزعامة في العالم الغربي، دونه عقبات عدّة، أبرزها استعادة الثقة بين ضفتي الأطلسي بعد أن دمرها ترامب بسياساته الوطنية الضيّقة، وتصنيفه الاتحاد الأوروبيّ كخصم. كما يفترض الأمر جهداً أميركياً كبيراً مع الحلفاء، لتأكيد استمرارية السياسة الخارجية المتبعة اليوم بعد العام 2024، وهو أمر يبدو مستحيلاً، إذ إنَّ من الصعب التنبؤ بعدم عودة ترامب أو من يشبهه إلى البيت الأبيض.
الميادين
Views: 8