يتكئ روائيون في اختيار شخصيّاتهم وبنائها النّفسي والجسدي والسّلوكي والقدري على شخصيّات من الواقع، وقد تكون هذه الشّخصية صديقاً أو جاراً أو حبيباً سابقاً أو ما إلى ذلك، وبينما يذكر بعضهم الاسم الحقيقي لها كالكاتب الأردني غالب هلسا المتوفّى في دمشق 1989 حيث استخدم اسمه الحقيقي ليكون الشّخصية الرّئيسة في روايته «الخماسين»، يلجأ آخرون إلى إعطائها أسماء جديدة فقط, وهذا ما اتّبعه الرّوائي المصري نجيب محفوظ في كثير من رواياته نذكر منها «الّلص والكلاب»، و«فندق ميرامار»، ويعتمد البعض الآخر على إزالة اللبس وقطع الشّك باليقين والتّصريح بأنّ هذه الشّخصية واقعية كما فعل الرّوائي الفلسطيني الّدكتور يوسف حطيني في روايته «رجل المرآة» إذ يقول في فاتحة الرّواية: رجل المرآة هو أنا بشحمي ولحمي ودمي.. ولست السّارد الشّارد أو المراقب.. ومثله فعل الشّاعر والرّوائي السّوري أنور الجندي في روايته «ألم» التي كتبها نزولاً عند رغبة أخيه, وفيها ينقل معاناته مع مرض السّرطان ورحلته العلاجية الطّويلة حيث عمد على ذكر الاسم الصّريح لأخيه وكذلك يومياته في المستشفى والمنزل.
وبغض النّظر عمّا إذا كانت هذه الشّخصيات باسمها الحقيقي أم لا، فقد تفاعلنا معها فرحاً وحزناً، كما احتلّ بعضها جزءاً من ذاكرتنا لا يمكننا إلّا أن نتذكرها في الحديث عن بعض الرّوايات، لدرجة أنّ خبراً عنها كان بمنزلة كنز عظيم، نذكر هنا بطلة فيلم «تايتانيك» الحقيقية والمقابلة التي أجريت معها، وهي في عمر الثّمانين ربّما أو أكثر، كما أنّ خبر وفاة بطل الرّواية الحقيقي شكّل مفاجأة لمن لم يعرف القصّة كاملة ولمن عرفها لاحقاً، هذا ما كان فور إعلان أنور الجندي – منذ فترة قريبة – نبأ رحيل شقيقه جمال وبطل روايته بعد معاناة طويلة مع السّرطان الخبيث، ما يزيد الغصّة غصات أنّ جمال, وقبل مرضه كان يقاتل في صفوف الجيش العربي السّوري، ووثقت عدسة الجوّال ومن بعدها صفحات شبكة التواصل الاجتماعي «فيسبوك» صورة تعاطف معها كثيرون وشاركوها على صفحاتهم الزّرقاء، وتفاعلوا بأعذب الكلمات وأصدقها، فهو الجندي الذي افترش الأرض وتغطّى بالسّماء، وشدّ معدته في الفلاء وصدّ الرّياح بالدّبابة التي تقلّه ورفاق السّلاح إلى معركة أخرى.
رحيل جمال لم يكن رحيل أخ فقط بل كان رحيل بطل من أبطالنا الشّرفاء نعاه سوريون لم يعرفوه، ورحيل بطل رواية عزّى به رفاق أخيه من شعراء وروائيين وقاصّين بكلّ حزن وأسى.. لدرجة أنّ أحدهم قال: إنّه يحسد أنور لأنّه يمضي ثوانيه في التّواصل مع روح أخيه الهائمة بعد رحيله.. لقد كان جمال أيضاً بطلاً في وجه المرض يصارعه كلّ يوم، وهذا ما يوثّقه أنور في روايته التي كتبها قبيل رحيل الشّاب الّذي لم يعرف سوى منح الفرح لمن حوله, ولاسيّما عائلته الصّغيرة وابنتيه الجميلتين.
مع جمال تنقلنا من طبيب إلى آخر وبتفاقم حالته ازداد توترنا، وبدخوله غرفة العمليات توقّف نبضنا، لكننا لم نستسلم كما عائلته التي احتضنت وجعها وألمها, وبدأت طريق العلاج خفقة خفقة وصولاً إلى رحلة الجرعات التي انتهت آنذاك بخير وسلامة، ويقول أنور على لسان أخيه جمال: هكذا أكون قد فرغت من علاجي المُضني وهمّي الثقيل، وبات عليّ أن التفت إلى أيامي القادمة، وأخرج من كلّ هذا العام الذي مضى، إلى عامٍ جديد وهمّة جديدة.. أعود إلى العمل مرتدياً بزّتي وأعود إلى ممارسة الرّياضة, وإلى مباهج الحياة من دون الإذعان لما بدر من لؤم الأقدار وسوئها.
استطاع أنور أن ينهي روايته قبيل أن ينهي جمال رحلته مع المرض، إذ قّر للقلب الطّيب أن يقرأ ما خطّت أنامل الإخوة والأدب معاً ويتفاعل معها على الـ«فيسبوك»، لكن لم يقدّر له الفرح أكثر، وهذا ما نقرؤه في استهلال أنور إذ يقول: كم من السّهل على المرء أن يكون سعيداً، فهو لا يحتاج لذلك إلّا لخدرة الإحساس وتجاهل الواجب.. أما أن تكون جدياً في زمن صعب، ومتكافلاً مع أهلك, فهذا الأمر لن يجعلك سعيداً بقدر ما يجعلك صامتاً وصلباً وأقرب إلى الحزن من الفرح”.
في هذه الرّواية، لم يجهد الجندي نفسه في ابتكار شخصية البطل أو ترتيب الأحداث لها ذاك أنّها تسير بسلاسة لطيفة على الرّغم من صخبها وحزنها وقهرها وجبروتها في بعض المواقف، وكأنّي بالرّاوي يقول: هذا ما حصل بالحرف الواحد من دون زيادة أو نقصان، ولاسيّما حين تدمع الرّوح مع الأب المكلوم حين نقرأ: وازداد نشيج أبي حتّى أجبرني على الصّمت لبضع لحظات فقط… إلى قوله: نهض أبي متكئاً على عكّازه، ومشى ببطءٍ مريعٍ ظننت أنّه سوف يسقط بعد خطوتين أو أكثر، فطلبت من ابنتي ريم الإمساك به وإيصاله إلى البيت..
وكما كان جمال بطل الرّواية والحرب والمرض والواقع، ها هو أيضاً بطل القصائد والقوافي يقول أنور في رثاء جمال الرّوح والقلب:
لي أخ أحلى من البدر قد مات
ويطالبونني كي أكون رجلاً بالسّكات
لا أريد رجولتي دون أخي
ولن يسكت ثغري عن الآهات..
Views: 7