تمر البشرية حالياً بمرحلة حرجة من التعقيد الصحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي والأخلاقي بصورة لم يسبق لها مثيل في الذاكرة البشرية. هذا ينطبق بصورة أكبر على الدول ضعيفة الحوكمة والتوافق والموارد. فهل من مخرج؟ واين نبدأ الإصلاح والإستجابة المرنة والذكية؟ وكيف نعيد التفكير في الحوكمة العامة باتجاه الثقة المجتمعية والتحول الديمقراطي ونتجنب إعادة اختراع العجلة.
هذا المقال يبدأ بالأساسيات حول أولويات الإصلاح وعقليته وحوكمته (أي تنفيذه). ففي تلخيصهما لأهم ثلاث دراسات عميقة معاصرة حول محركات ازدهار المجتمعات واستقرارها، وجد باحثان غربيان مخضرمان بأن السياسة والمؤسسات هما المحدد الرئيسي للنتائج التنموية طويلة الأجل في الدول، المتميزة منها والكارثية (1).
وبشأن عقلية الاصلاح الجوهري، لابد من الابتعاد عن التحيز المعرفيّ المتمثل في اللجوء دوماً الى الحلول القديمة منتهية الصلاحية. وبهذا الخصوص، يحذر قانون معرفيّ يُعرف ب “قانون الأداة”، ويسمّى أيضا “مطرقة ماسلو”، يحذر من الاعتماد الزائد على المناهج والأدوات المألوفة والمتبعة تاريخياً والتي ثبت فشلها بمعيار التنمية والإستدامة، ولم تعد تخدم الحاضر والمستقبل بمستجداته وتعقيداته المتفاقمة. فمن المغري إذا كانت الأداة الوحيدة التي تملكها هي “مطرقة” أن تعتبر كل شيء كما لو كان مسماراً!.
وتطبيقاً على ذلك، وبناء على تجارب تاريخية ممتدة وعربية متعددة، فليس من “الإصلاح الاقتصادي” الاعتماد من جديد على برامج وتوصيات وقروض وإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين المستندة أساساً الى الليبرالية الجديدة والإقتصاد الرأسمالي الحر. وأيضاً ليس من “الإصلاح المستدام” الاعتماد المفرط والمستمر على القوة الخشنة في تحقيق الرخاء والبقاء في الألفية الثالثة.
ففي مطلع الألفية الثالثة، تمر البشرية جمعاء بأزمتين عالميتين 2008 و2020، احداهما ذات منشأ مالي لكن بأبعاد اقتصادية ضخمة، والأخرى صحية لكن بأبعاد أضخم اقتصادية ومالية ووجودية. بل ان وباء كورونا هو حدث فريد من نوعه في التاريخ المسجل من حيث حجم النطاق العالمي والتأثير متعدد الأبعاد، وقاد الى وفيات وكلف مالية واقتصادية تفوق المتصور بأضعاف مضاعفة، ولا يزال العداد شغالاً في ضوء التحورات غير المتوقعة في الفيروس.
لكن ما الجامع لكلا الجائحتين وغيرهما من الأزمات المعقدة؟ انه ببساطة ضعف الحوكمة العامة على مستوى السوق والسلطة معاً، بالإضافة الى تداخل متزايد التعقيد بين مصالح الدول والأفراد فرضته العولمة والتقنية والركود العالمي.
ويُقصد بالحوكمة العامة آليات رقابية متنوعة لضبط الأنانية والجشع والفساد البشري وضمان التنسيق المجتمعي بين مصالح الأفراد والدول. وهي آليات تشمل الدولة وإطارها القانوني ولكن تتجاوزها بالتأكيد كالسوق والمجتمع والأخلاق والقيم والشبكات.
فهل من دروس هامة مستقاة؟ حسب تعبير الاقتصادي الأمريكي جامس بوكانان الحائز على جائزة نوبل في الإقتصاد الدستوري: “اذا فشلت كل من الأسواق والحكومات ]في احتواء الأزمات الوجودية وأزمات السياسة[، ما هو البديل التنظيمي؟” (2).
لقد تم مناقشة الخيارات المتاحة لتطوير الحوكمة العامة في مقال سابق لهذا الكاتب (3)، ملخصه ضرورة البعد عن تغول الليبرالية الجديدة أو “اليد الخفية” وعن تضخم “اليد السياسية” وغرورها، والإستعانة بأيادي أكثر لامركزية وتعاقدية و”عن تراض”، حيث تكون الأمة ككل، ومؤسسات المجتمع المدني، هي الداعم والمنفذ للإصلاح المستدام والمقاد من قبل الدولة التنموية، سواء في الرقابة أو في التشريع أو في تقليل التهرب الضريبي واعادة حشد الموارد البشرية والمالية اللازمة لإدامة الدولة.
المبررات الرئيسية لهذا المقترح: (أ) خضوع آليات السوق والبيروقراطية معاً لجوانب إخفاق مزمنة ولقانون تناقص الغلة أو العائد حسب علم الاقتصاد ودليل ذلك الواقع العالمي المتردي، و(ب) التعقيد المتزايد للمجتمعات المعاصرة ومشكلاته الجماعية، مما يتطلب الخضوع لقانون حديدي معروف في علم السيطرة والإتصال يدعى قانون التنوع المطلوب Law of Requisite Variety لأساليب حوكمة متعددة ومتكاملة.
الواقع العربي المعاصر يتسم بالتعطش للإصلاح والحاجة الى حلول وإجراءات جماعية على مستوى التنمية والديمقراطية والهوية والإستقلال والحوكمة العامة، والمياه والطاقة والبطالة، والصحة والتعليم والفقر، وحوكمة الأسواق والأسعار وتدني متوسط دخل الفرد وإنكماش الطبقة الوسطى، وتفاقم الفساد وعجز الموازنة والمديونية العامة وغيرها.
لكن ليس السوق الحر وحده ولا البيروقراطية المركزية وحدها، ولا الإثنان معاً بالضرورة هو الحل، حيث لا يزال التعطش للدولة والريبة منها سائدين حالياً (4). واقتصاديات الإختيار العام تقدم العديد من الحجج القوية والمتسقة لصالح التحذير من تغول القطاع العام وتقليل حجم البيروقراطية وترشيد مهامها وتطوير كفاءتها ومساءلتها. لكن السوق الحر أيضاً ليس هو الحل، بل الأمة والتشاركية والإستجابة الحكيمة والنخب القائدة هي الحل.
Views: 1