مع انخفاض مستوى العلاقات بين بلديهما إلى أدنى مستوى، عقدت قمة تاريخية بين جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لمناقشة «الخطوط الحمراء» والمصالح المشتركة، في وقت تعيد واشنطن رسم علاقاتها الخارجية في فترة ما بعد ترامب، لكن في المقابل، فإنّ انعقاد القمة، لا يعني بالمطلق أنّ القوتين العظميين، قد تجاوزتا نقاط الاختلاف والخلاف في ما بينهما، خاصة أنّ مروحة الخلافات المشتركة بين القطبين الروسي والأميركي، تتسع وتضيق وفق منظور المصالح بين موسكو وواشنطن، وعطفاً على ذلك، فإنّ النزاعات الثنائية بينهما، تكاد لا تُعدّ، من معاهدات الأسلحة الاستراتيجية، وتسمياتها المتعددة، مروراً بقضايا المناخ والطاقة، ووصولاً إلى السياسات الرامية إلى تضييق الخناق على الآخر، في ساحات إقليمية ودولية متعددة، كل ذلك تؤطره تداعيات فايروس كورونا، والصعود الإيراني والتفوّق الصيني، وبالتالي، فإن جُملة الملفات التي نُوقشت في جنيف، لا يُمكن أن تختزلها ساعات ثلاث أو أربع وحتى خمس، خاصة أن لكل طرف أسلوبه السياسي، ونظرته الاستراتيجية، تجاه هذه الملفات، وينطلق كل طرف في مباحثاته، من جزئيتي، توسيع دوائر نفوذه وحماية مصالحه.
في أجواء ما قبل القمة، ساد الشك لدى غالبية المتابعين، لجهة عدم إمكانية انعقاد القمة، خاصة أن جو بايدن، وصف بوتين بالقاتل، الأمر الذي تجاهله بوتين، ودعا بايدن إلى لقاء ثنائي بغية رسم خطوط التفاهمات بينهما، من أجل مستقبل أفضل للبلدين، والبحث عن تفاهمات تتعلق بالقضايا الخلافية إقليمياً ودولياً، حالياً، ومع طلب الولايات المتحدة عقد قمة مع روسيا، فإن موسكو ترجمت هذه الدعوة، في إطار “الاعتذار الضمني”. ففي الأحوال الطبيعية، لن يعقد أي رئيس أميركي قمة مع من يعتبره “قاتلاً”؛ في المقابل، يريد بايدن إبلاغ بوتين ما ينظر إليه كـ”خطوط حمراء” بالنسبة إلى الولايات المتحدة مثل التدخل في الانتخابات الرئاسية والهجمات السيبيرانية والتهديدات بحق الحلفاء، وبكلّ وضوح فإن واشنطن تُركز على قضايا حقوق الإنسان داخل روسيا، وفي مقدّمها ملف المعارض الروسي البارز ألكسي نافالني، لكن القضايا الحقوقية في روسيا هي أيضاً “خط أحمر” بالنسبة إلى الكرملين، وبالنسبة إلى التدخلات الانتخابية والهجمات السيبيرانية، سيواصل بوتين نفي أي دور لبلاده فيها.
ما من توقعات كبيرة بأن تُحدث مخرجات قمة جنيف التي جمعت الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين خرقاً كبيراً في العلاقات الثنائية. إنْ كان من نقاط ضئيلة بإمكان الطرفين الاتفاق عليها، فهي بلا شك تدهور الروابط بين موسكو وواشنطن إلى حدّها الأدنى منذ الحرب الباردة. على الرغم من ذلك، يمكن أن تشكل القمة فرصة لبوتين تحديداً بالنظر إلى الظروف التي انعقدت ضمن أجوائها.
في قمة جنيف، ثمة نقاط إيجابية أخرى بالنسبة إلى روسيا، فهي تأتي بعدما أعفت إدارة بايدن عن شركة “نورد ستريم أي جي” التي تطور مشروع خط أنابيب نقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا في أيار الماضي، ويعدّ المدير التنفيذي للشركة ماتياس وورنيغ صديقاً مقرّباً من بوتين وقد خدما معاً في ألمانيا الشرقية خلال حقبة الاتحاد السوفياتي، وعلى الرغم من أنّ بايدن يصل إلى جنيف بعد قمّة لحلف شمال الأطلسيّ ومجموعة الدول السبع، يبقى أنّ الرئيس الأميركي لم يتناقش مع حلفائه الأوروبيين بخصوص لقائه ببوتين.
علاوة على ذلك، لم يبلغ بايدن أوكرانيا بشأن هذه القمّة، ممّا أدى إلى امتعاض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي أعرب عن “خيبة أمله” من القرار الأميركيّ. حتى أنّ زيلينسكي قال إنّه كان من الأفضل أن يعقد بايدن لقاء معه قبل الذهاب للقاء مع الرئيس الروسي، وهذا التوتر الضمني بين الأميركيين وحلفائهم يريح روسيا في قمّة سويسرا، بصرف النظر عن التصريحات الصادرة بعد اللقاء.
في قمة جنيف، كان واضحاً أنّ بايدن استخدم بعض بعض التعابير القاسية ليثبت أنّه مختلف عن سلفه ترامب. وعلى الأرجح، سيتفهّم بوتين هذه الضرورات الإعلامية الهادفة إلى إرضاء القواعد الشعبية الداخلية. لكن ما يهمّ بوتين في نهاية المطاف هو الخطوات السياسية التي اتخذتها الولايات المتحدة قبل القمة، والتي على ما يبدو، تلائم تطلعات بوتين القصيرة المدى.
في المحصلة، يمكن وبكل وضوح قراءة البيان الختامي لقمة جنيف، فمن الواضح أنّ البيان كان دبلوماسياً ومنمّقاً ولم يأتِ بجديد، وبكلّ تأكيد فإنّ الاجتماع المغلق بين بايدن وبوتين، لن تُعرف مخرجاته في الوقت الراهن، ولن يتمكن أحد من سبر أغوار هذا الاجتماع، وستُعرف نتائجه في ملفات كثيرة إقليمية ودولية، لكن ما يهمّنا في المنطقة، هو جدية الرئيسين بايدن وبوتين، في حلحلة قضايا المنطقة، من سورية إلى القضية الفلسطينية وحتى اليمن، مع اتفاقهما على تظهير اتفاق نووي مع إيران، يسحب فتيل التوترات في المنطقة، وبذلك فقط، وحين حلحلة هذه الملفات، نقول صراحة إنّ قمة جنيف كانت ناجحة، لِما لهذه الملفات من تأثيرات إقليمية ودولية جمّة.