يرى البعض في احتمال سحب المرتزقة السوريين من ليبيا تكتيكاً تركيا قد تتّفق عليه أنقرة مع واشنطن ليكون ذلك مبرِّراً لإخراج المرتزقة الروس.
بعد المعلومات التي تحدّثت عن مساعي أنقرة للاتفاق مع رئيس الوزراء الليبي، عبد الحميد الدبيبة (شركاته تعمل في تركيا)، والفصائل التي تدعمه، من أجل اتّخاذ موقف موحَّد في مؤتمر برلين، أعلن وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، تحفّظه على توصيات المؤتمر في ما يتعلق بانسحاب القوات الأجنبية من ليبيا، قبل انتخابات كانون الأول/ديسمبر المقبل.
وجاء هذا الإعلان تأكيداً للموقف التركي الرافض سحب القوات التركية من ليبيا، قبل توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، وإخضاعها لأوامر المجلس الرئاسي بهدف الحدّ من قوة الفريق خليفة حفتر، تحت غطاء دولي.
ويعرف الجميع حجم العداء التركي لحفتر، المدعوم من مصر والإمارات، ولن تسمح له أنقرة بالعودة إلى طرابلس والمناطق المجاورة لها، ما دامت تحتفظ هناك بعلاقات متشابكة بعدد من الفصائل الليبية المسلّحة. وتنسّق أنقرة مع هذه الفصائل، وتتعاون معها، عسكرياً واستخبارياً، عبر قواعدها الجوية قرب مطار معيتيقة، وقواعدها البحرية في مصراتة، حيث معقل هذه الفصائل. ويقوم ضبّاط أتراك بتدريبها، وتسليحها بكل أنواع الأسلحة المتطوّرة.
وهو ما فعلته أنقرة مع الفصائل المسلّحة في سوريا، فجمعتها تحت راية ما يسمى “الجيش الوطني السوري”، الرديف للجيش التركي الموجود في الشمال السوري، بطول 500 كم، من رأس العين حتى حدود إدلب. ولا فرق بينها وبين مصراتة الليبية، التي يبدو واضحاً أن تركيا لا، ولن تتخلى عنها، حتى لو اضطرت، تحت الضغوط الأميركية، إلى سحب المرتزقة، الذين نقلتهم من سوريا، وأدّوا دوراً مهماً في تغيير موازين القوى لمصلحة القوات الموالية لحكومة الوفاق، في صيف عام 2019، وتحت أنظار العالم.
ويرى البعض، في هذا الاحتمال، أي سحب المرتزقة السوريين، تكتيكاً تركيا، قد تتّفق عليه أنقرة مع واشنطن، ليكون ذلك مبرِّراً لإخراج المرتزقة الروس من ليبيا. وهو ما تسعى له أميركا والدول الأوروبية منذ فترة، للحدّ من دور موسكو في الشمال الأفريقي ووسطه، ومن دون أن تفكّر هذه الدول في ممارسة أيّ ضغوط على أنقرة لسحب قواتها من سوريا والعراق والصومال، أو إجبارها على اتِّخاذ موقف واضح وعملي ضد مسلّحي “جبهة النصرة” في إدلب، وهم إرهابيون، وفق التصنيف العالمي.
ويشجّع الموقف الأميركي هذا، المدعوم أوروبياً، الرئيسَ إردوغان على الاستمرار في مواقفه الحالية في سوريا والعراق والصومال، وهي دول عربية، ما دامت جامعة الدول العربية لا، ولن تتّفق على موقف مشترك ضد أنقرة. ويفسّر ذلك فشل مساعي المصالحة التركية- المصرية، بعد أن رفض الرئيس إردوغان شروط الرئيس السيسي، الذي ناشد تركيا الكفَّ عن تدخّلاتها في شؤون الدول العربية. ويبدو واضحاً أن هذه المناشدة لا، ولن تترجَم عملياً، مع استمرار سياسات إردوغان في سوريا والعراق، والآن في ليبيا، الحديقة الخلفية لمصر.
لقد أعلن إردوغان، أكثر من مرة، أن تركيا تدعم وحدة سوريا وسيادتها، إلا “أنها لن تنسحب منها إلاّ إذا طلب الشعب السوري منها ذلك”. والمقصود هنا بالشعب السوري هو “أربعة ملايين سوري يوجدون في تركيا، وسبعة ملايين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها مختلف الفصائل الموالية لتركيا”، والقول لمستشاري إردوغان.
وتستبعد المعلومات أيَّ اعتراض أميركي على هذا الموقف التركي، ما دامت أنقرة، بدورها، لا تعترض على استمرار الوضع الحالي شرقيّ الفرات، أي بقاء المنطقة تحت سيطرة “قسد”، ومجموعاتها الكردية بالذات، على ألاّ يشكل هذا الوضع خطراً مباشِراً عليها، لكنه، في الوقت نفسه، يعرقل الحل النهائي للأزمة السورية.
وترى واشنطن أن الوجود التركي في سوريا والعراق، وحتى في ليبيا، يشكّل عنصراً مهماً يدعم حساباتها الخاصة في المنطقة أولاً، من أجل مواجهة الدور الروسي، وبالتالي بهدف الحدّ من التأثير الإيراني في العراق، مروراً بسوريا، وصولاً إلى لبنان. بمعنى آخر، وخلافاً للوضع في ليبيا، تريد واشنطن من الدور التركي، في سوريا بالذات، أن يوازن الدور الإيراني، الذي كان، وما زال، العقدة النفسية لأنظمة الخليج، التي يسعى الرئيس إردوغان لمصالحتها، بدعم من قطر. ويعرف الجميع أن الدوحة تقف الى جانبه، في كل تحركاته الإقليمية والدولية، وبضوء أخضر أميركي، قد تضيئه واشنطن هذه المرة للرئيس إردوغان في الصومال، التي توجد فيها قوات تركية، تمارس أنشطة تركية متعددة هناك.
ويرى البعض، في هذا التمدّد التركي في سوريا والعراق وليبيا والصومال وأذربيجان، وقريباً في أفغانستان، جزءاً من استراتيجية الرئيس إردوغان، الذي لا، ولن يتراجع عن هذه الاستراتيجية ما دام يعتقد أن الظروف الإقليمية والدولية لمصلحته. بمعنى آخر، إن إردوغان يعتقد، بل يؤمن بأن روسيا وأميركا لا، ولن تتفقا في ما بينهما ضده شخصياً، أو ضد تركيا، ما دام لكل من هاتين الدولتين حساباتها الخاصة في المنطقة. وسيعني ذلك أن إردوغان لن ينسحب من سوريا، ولن يتخلى عن إدلب، مهما تكن الضغوط الروسية. كما أنه لن ينسحب من الشمال العراقي في غياب الإرادة العراقية، بسبب انشغال بغداد بمشاكلها الداخلية، التي تمنعها من اتخاذ أيّ موقف عملي ضد العمليات العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية.
في هذا الوقت، تتحدث المعلومات عن استمرار المساعي التركية لمنع المصالحة الليبية، في صورتها النهائية، من دون الحصول على ضمانات مطلقة باستمرار المصالح التركية العقائدية والاستراتيجية والاقتصادية في ليبيا، الآن ومستقبلاً، بما في ذلك استمرار اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بينها وبين حكومة الوفاق، والموقّعة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وما لحقها من اتفاقيات للبحث والتنقيب عن الغاز والبترول في المياه الإقليمية الليبية.
ونجحت أنقرة في إقامة علاقات وطيدة بعشرات الآلاف من مسلّحي الفصائل المتعددة، وعقدت مع عدد كبير من الليبيين علاقات تجارية واقتصادية ومالية، وجعلتها متشابكة مع تركيا. وسبق للرئيس إردوغان أن قال “إن في ليبيا أكثر من مليون شخص من أصول تركية، هم من بقايا الحكم العثماني لليبيا، الذي دام نحو 400 عام”. وترى أنقرة في وجودها، الشامل والواسع والمتعدد، في ليبيا، عنصراً أساسياً يدعم مجمل سياساتها في الشمال الأفريقي عموماً، ما دامت ليبيا تجاور دولاً مهمة في الحسابات التركية، أهمها مصر وتونس، ثم الجزائر والسودان ومالي وتشاد.
ووضعت “تركيا إردوغان” خطة شاملة للتمدّد في القارة الأفريقية “ضد الدول الاستعمارية التقليدية، ومنها فرنسا، وأحيانا إيطاليا وبلجيكا وهولندا”، فافتتحت سفاراتها في 45 دولة منها. ويفسّر ذلك اهتمام أنقرة الواسع بالصومال، بسبب أهمية موقعها الاستراتيجي، والذي يطلّ على بحر العرب وباب المندب، ونتيجة قربها من كينيا وإثيوبيا التي يستمرّ الحديث عن توترها المحتمل مع السودان ومصر، بسبب سد النهضة.
ويرى البعض، في هذا السد، تذكيراً بسد أتاتورك على نهر الفرات، والذي بنته تركيا عام 1992، من دون أن تبالي بردود فعل دمشق وبغداد، اللتين لم يعد لهما حول ولا قوة للاعتراض على السياسات المائية لأنقرة، التي بنت سدوداً أخرى على نهر دجلة، هذه المرة. وكان الموقف العربي المتشرذم، وما زال، سبباً كافياً بالنسبة إلى الرئيس إردوغان، الذي يرى في ذلك فرصته الذهبية في العودة إلى المنطقة العربية، أياً تكن مبرّراته وحججه ومقولاته العقائدية والتاريخية والاستراتيجية. ويرى إردوغان أيضاً في الخلافات العربية- العربية، وتآمر البعض منها على البعض الآخر، كما هي الحال منذ ما يسمى “الربيع العربي”، فرصته الذهبية الثانية في فرض رؤيته على إسلاميي المنطقة، وكل ما يحتاج إليه هو مزيد من الدعم الأميركي لمشاريعه.
وهو ما حصل عليه مع بدايات “الربيع العربي”، عندما أصدرت واشنطن تعليماتها للأنظمة العربية، والإسلاميين عموماً، للتنسيق والتعاون مع تركيا، أي إردوغان، من أجل القيام بما قام به في سوريا. واستغلّ إردوغان وضعه في هذا البلد، فحقّق ما حققه من أهداف استراتيجية، مرئية وغير مرئية، ليس فقط في العراق وليبيا والصومال (ولن ينسحب منها إلاّ بمعجزة)، بل في مناطق أُخرى، لا تُعَدّ ولا تُحصى، إقليمياً ودولياً!
الميادين
Views: 1