مع بداية تموز، يُصبح المودعون فئتَين، الأولى ستستمر بسحب فتات أموالها على سعر 3900 ليرة، والثانية يُفترض أن تبدأ بحسب 800 دولار مناصفة بين الدولار والليرة، بشرط تجميد أموالها. تلك خطوة يتعامل معها المصرف المركزي وفق معادلة رابح ــــ رابح، فهو ظاهرياً يريد تقسيط أموال 600 ألف مودع، ويُقلّص من حجم الكتلة النقدية بالليرة، لكن عملياً هو سيتخلّص من الفئة المزعجة من المودعين وسيكرّس تحويل حسابات الدولار إلى الليرة، من دون أن يكون قادراً على ضبط الكتلة النقدية كما يدّعي
غداً، يُفترض أن يبدأ تطبيق تعميم مصرف لبنان الرقم 158. لكن مصرفيّين يؤكدّون أن ذلك سيكون مستحيلاً. فهذه الخطوة تحتاج إلى وقت إضافي حتى تتبلور، ولا سيما في ظل حالة الضياع التي تعيشها المصارف جراء عدم وضوح التعميم. وهو ما لم يبدّده الكتاب الذي وجّهه حاكم المصرف المركزي إلى رئيس جمعية المصارف، وتضمّن إجابات بشأن الإجراءات التطبيقية المتاحة لحسن تنفيذ التعميم. إضافة إلى الإشكالات التي لا تزال المصارف تطرحها، فإن الإجراءات اللوجستية التي يفترض اتّباعها مع العملاء تحتاج أيضاً إلى وقت لإنجازها. ولذلك، طلبت بعض المصارف إمهالها مزيداً من الوقت لتنفيذ التعميم، فيما تؤكد أخرى جاهزيتها منذ الأسبوع الأول من تموز، بعدما عمدت خلال الفترة الماضية إلى إعداد لوائح بالحسابات التي يحقّ لها الاستفادة من التعميم.
لكن مع ذلك، تجزم مصادر على صلة بمصرف لبنان أنه حتى لو تأخر التنفيذ عن الأول من تموز، فإن الشهر لن يمر قبل أن يحصل كل الراغبين بالسحب على أساس التعميم المذكور على أموالهم المستحقة عن هذا الشهر.
هذه التطمينات لم تنطل على رابطة المودعين، التي سبق أن اعتبرت أن «القرار المذكور كسوابقه، مصمم لتحميل الكلفة لأصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة، وباطنه تجميد للحسابات المصرفية، ويشكّل حماية للمصارف على حساب المودعين». وناشدت «أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة عدم الرضوخ لمحتوى القرار»، مطالبة «القضاء المعني باتخاذ الإجراءات لكف يد حاكم مصرف لبنان عن العبث بالأمن الاجتماعي وتعدّيه السافر على القانون والدستور»، ومحمّلة «المسؤولية الأكبر للكتل السياسية في البرلمان اللبناني والسلطة التنفيذية».
من تحمّله الرابطة المسؤولية، سبق أن سلّم أمره وأمر البلد لسلامة بشكل كامل. وما التعميم إلا تأكيد على ذلك. فقد تقرر طيّ صفحة قانون الكابيتال كونترول الذي يضع أحكاماً قانونية موحّدة ومنظّمة، لمصلحة تعميم سلامة الذي يبقيه متحكّماً بالسحوبات والاستثناءات، أسوة بتحكّمه بالدعم.
وجهة النظر المقابلة تشير إلى أن التعميم سيساهم في استعادة المودعين، ولا سيما الصغار منهم، لودائعهم عبر تقسيطها، من دون التأثير على القطاع النقدي أو الضغط على العملة. يؤكد مصدر مقرب من مصرف لبنان، أنه بعكس ما يتردد، فإنه لن يزيد التضخم، بل على العكس سيساهم في خفض طباعة العملة بحد أدنى يصل إلى 700 مليار ليرة شهرياً. ينطلق المصرف المركزي في حسبته هذه من الآتي: معدل السحب على سعر 3900 ليرة للدولار يبلغ حالياً 1500 دولار، أي ما يعادل 5.7 ملايين ليرة شهرياً، في حين أنه وفق التعميم الجديد، ستساوي الـ 400 دولار، التي ستُحتسب على أساس سعر 12 ألف ليرة، 4.8 ملايين ليرة. لكن بحسب توضيح مصرف لبنان، فإن هذا المبلغ لن يكون بإمكان المودع سحبه نقداً، بل سيحق له سحب نصفه نقداً، على أن يحوّل النصف الآخر إلى بطاقة مصرفية يمكن استعمالها لدى نقاط البيع.
وعليه، فإن المبلغ النقدي الذي يفترض أن يحصل عليه المودع سينخفض من 5.7 ملايين ليرة إلى 2.4 مليون ليرة شهرياً. التوقعات تشير إلى أن ذلك سيقلل من طباعة العملة بما يصل إلى 700 مليار ليرة شهرياً، وبما يقارب 10 تريليونات ليرة في السنة. حالياً يقول المصدر إن مصرف لبنان يزوّد المصارف بنحو 2100 مليار شهرياً، منها 750 ملياراً لرواتب القطاع العام والأجهزة الأمنية، ونحو 450 مليار ليرة لرواتب للقطاع الخاص، فيما الـ 800 الباقية تذهب لتغطية التعميم 151 (السحب على سعر 3900 ليرة للدولار). وتشير المصادر إلى أنه في حزيران الجاري انخفض المبلغ المسلّم إلى المصارف إلى 1500 مليار ليرة، معلّلة ذلك بأن الناس بدأوا يستعملون البطاقات المصرفية أكثر، وأن إحصاءات المركزي تشير إلى أن 25 في المئة من الرواتب تصرف عبر البطاقات. وبعد تطبيق التعميم، تتوقع المصادر أن ينخفض ضخ الأموال إلى حدود ألف مليار ليرة.
مشكلة مصرف لبنان، بحسب مصادر معارضة، أنه يحاول التعمية على ألف باء النقد، أي حقيقة أنه لا يمكن التمييز بين الليرة المطبوعة والليرة المتوفرة في البطاقات (أو حتى في الحسابات الجارية)، فكلاهما قابل للتداول، وبالتالي فإن كليهما يساهم في زيادة التضخم. فالأموال التي تُدفع للتاجر عبر البطاقة هي أسوة بالأموال المطبوعة، قابلة للتحويل إلى الدولار، ولو لم تكن كذلك، لرفض التاجر عمليات الدفع بالبطاقة. فهو في النهاية يشتري السلع بالدولار الذي يحصل عليه من خلال الليرات التي يحصل عليها من مبيعاته، بغض النظر إن كانت نقدية أو عبر البطاقة.
نظراً إلى الشروط المطلوبة للاستفادة من التعميم، تتوقع مصادر متابعة لعمل المصرف المركزي أن لا يتقدم الـ 750 ألف مودع الذين يستهدفهم التعميم للاستفادة منه، حيث سيكون العدد بين 500 و600 ألف مودع. إذ إن منع من يستفيد من التعميم 158 من الاستفادة من التعميم 151 (السحب على سعر 3900 ليرة)، سيعني، خاصة بالنسبة للمودعين الكبار، تراجعاً في المبالغ التي يمكن سحبها. وعلى سبيل المثال، مع افتراض أن سعر الصرف الحالي هو 18 ألف ليرة، فإن كل مودع سيحصل على ما مجموعه 12 مليون ليرة، (400 * 18000 + 400 * 12000)، في حين أن بعض المودعين يستفيدون من مبالغ أعلى بكثير عند السحب على 3900 ليرة (تؤكد مصادر مطلعة أن بعض المحظيين يسحبون حتى 10 آلاف دولار شهرياً، ما يساوي 39 مليون ليرة). وبالتالي من يحتاج إلى السيولة أو من لا يكفيه 12 مليون ليرة شهرياً، سيميل إلى الاستمرار بالسحب على أساس سعر 3900 ليرة لأنها تؤمن له أموالاً نقدية أكثر. وليس واضحاً بعد إن كان سيسمح لمن يملك حساباً في أكثر من مصرف بالسحب على أساس التعميمين، وخاصة أن مصادر معنية تؤكد أن ذلك سيكون ممكناً.
أما بشأن الدولارات، فيتوقع مصرف لبنان ضخّ ما بين 250 و300 مليون دولار شهرياً من الواحد في المئة التي نزّلها من الاحتياطي الإلزامي، لتغطية الـ 200 دولار التي يفترض أن يدفعها من أصل الـ 400 دولار المحددة شهرياً، مقابل دفع المصارف الـ 200 دولار الأخرى من الحسابات الخارجية التي كوّنتها. أما الحجة التي أصرّت عليها جمعية المصارف للتهرّب من الدفع، أي عدم وجود أموال لديها في الخارج، بل انكشافها بنحو مليار دولار ديوناً للمصارف المراسلة، فقد حسم مصرف لبنان الموقف، مؤكداً أن هذه المصارف قادرة على تمويل حصتها من التعميم، من خلال إلزامها إعادة تكوين 3 في المئة من الحسابات في المصارف المراسلة.
يؤكد خبير اقتصادي أن ما يقوله مصرف لبنان لناحية عدم حماسة المودعين الكبار للتعميم دقيق، لكنه يشير إلى أن المصرف يتناسى عمداً أن المودعين الكبار، في أغلبهم، لا يهتمون حتى بالتعميم الرقم 151. هؤلاء لديهم مصادر دخل بديلة، إما من خلال ما هرّبوه من أموالهم أو من خلال مصالح أخرى. ولذلك، فإن المصرف المركزي لا يستهدف أصلاً هؤلاء، إنما يستهدف أصحاب الحسابات الصغيرة والمتوسطة، ليس اكتراثاً لأمرهم كما يحاول الإيحاء، بل لكفّ شرّهم عنه. فبعد سنتين من المراوحة، لم يعد بإمكانه شراء المزيد من الوقت وفق الإجراءات الحالية. ولذلك، كان خيار دفع الـ 800 دولار، بمثابة السعي لإسكات الشريحة المزعجة من المودعين، بما يُمهّد لإجراءات قاسية يتم التحضير لها يصار لاحقاً إلى التفاوض بشأنها مع كبار المودعين.
وتشير التوقعات إلى أن أصحاب الودائع التي تصل إلى 500 ألف دولار ستكون مهتمّة بالسحب على أساس التعميم الجديد، وخاصة إذا كانت من الفئة التي تعتاش من هذه السحوبات. فهؤلاء يحصلون حالياً على 3000 دولار في الحد الأقصى، علماً بأن المودع الذي يملك 10 آلاف دولار على سبيل المثال، ويحصل حالياً على 500 دولار على سعر 3900 (1.950 مليون)، سيجد في التعميم الجديد فرصة كبيرة للحصول على أمواله بأقل خسائر ممكنة.
في المقابل، فإن المصرف المركزي يكون قد حقق أمرَين أساسيّين: منع المودعين من المطالبة بأيّ حقوق لهم بعيداً عن الخمسين ألف دولار التي جمّدت ويحتاج سحبها إلى خمس سنوات وشهرين. والأهم «تليير» 50 في المئة من الوديعة، بما يشكل سابقة يسعى مصرف لبنان إلى تعميمها لاحقاً.
Views: 1