الأمر يتعلق بنقل الإرهابيين إلى أفغانستان، وهو ما يحتاج إلى جهة خبيرة وموثوقة تستطيع إتمام هذه المهمة عبر مطار كابول.
ما زالت أغلب الدول المحيطة بأفغانستان حدودياً، أو تلك التي يمكن أن تتأثر بالطرف الذي يسيطر على السلطة في تلك الدولة فائقة الأهمية من الناحية الجيوستراتيجية، تتعامل بحذر مع الوضع الأفغاني بعد الانسحاب الأميركي الغريب، ومع ما يمكن أن يحدث من تداعيات غير مضبوطة، بعد التمدد السريع لحركة “طالبان” (أكثر من 85% من الأراضي).
وفي الوقت نفسه، تنشغل الأوساط المتابعة بموضوع طلب الولايات المتحدة من أنقرة نشر وحدات عسكرية لتأمين حماية مطار العاصمة كابول. وفيما وافقت تركيا على المهمة واستعدت لها، أعلنت حركة “طالبان” معارضتها للخطوة، ليس انطلاقاً من موقف معاد للأتراك، بقدر ما هو معاد للأميركيين، وبسبب شبهات نظرت إليها الحركة انطلاقاً من التواجد التركي في المطار بطلب أو بتمنٍّ أميركي.
صحيح أنَّ واشنطن شارفت على سحب أغلب وحداتها العسكرية من أفغانستان، وفي وقت مبكر عما كانت قد حددته عند اتخاذ القرار، ولكن عملياً يمكن القول إنّ أميركا تركت مع البعثة الدبلوماسية الضخمة وحدات أمنية وعسكرية كافية لحمايتها، ليس فقط في منطقة السفارة الأميركية داخل العاصمة كابول، بل أيضاً في تنقلات تلك البعثة التي سوف تنشط حكماً، ربما أكثر من السابق، لتغطية الفراغ الذي سوف يخلّفه الانسحاب، وخصوصاً أن واشنطن، كما يبدو، سيكون لها دور سياسي ودبلوماسي قوي وفاعل جداً داخل أفغانستان أو مع الدول الخارجية المعنية بالملف الأفغاني.
انطلاقاً من ذلك، لم يكن صعباً على الأميركيين استلام أمن المطار وحمايته مباشرة، وخصوصاً أنهم يمتلكون القدرة على التدخل بسرعة وبفعالية من قواعدهم المنتشرة قريباً من أفغانستان في جورجيا أو الخليج أو شمال المحيط الهندي.
واللافت أيضاً، والمثير للغرابة، أن تواجداً أميركياً عسكرياً وأمنياً ومخابراتياً لعشرين عاماً في أفغانستان، تخللته رعاية مباشرة وحماية وتدريب وتسليح لآلاف العسكريين الأفغان، وتجهيزهم بأحدث الأسلحة والقدرات العسكرية الأميركية، تقول لهم واشنطن اليوم: “إنكم غير قادرين على حماية مطار عاصمتكم، وسوف نطلب من الأتراك حمايته، وبـ500 جندي وضابط فقط، في الوقت الذي يناهز عددكم مئات الآلاف”، إلا إذا كان لواشنطن علم مؤكد مسبق بأن “طالبان” سوف تسيطر على كامل أفغانستان مع العاصمة والمطار. في هذه الحالة، يحتاج المطار إلى حماية “مقبولة” مذهبياً وسياسياً من حركة “طالبان”، والأتراك قد يكونون أكثر طرف تتوفر فيه هذه الشروط.
صحيح أنَّ واشنطن فاجأت العالم والدول الكبرى والإقليمية بطريقة انسحابها الغامضة من أفغانستان، لناحية السرعة والتوقيت الخاطئ، أو لناحية التسرع قبل استشراف ما يمكن أن يحدث لناحية تمدد “طالبان” الصاعق، ولكن واشنطن نفسها، كما يبدو، تفاجأت بالموقف الخارجي لحركة “طالبان” مع الدول المجاورة، وتحديداً مع الثلاثي الذي تستهدفه واشنطن من خلال الانسحاب (الصين وروسيا وإيران)، فنظرت، وبحسرة، إلى هذا الموقف “الطالباني” المتفهم لحذر وخشية الدول الثلاث المذكورة من أية تداعيات قد تنشأ على الحدود الخارجية لأفغانستان، كما نظرت أيضاً، وبأسف، إلى الموقف الاستيعابي الذكي لهذه الدول، في تفهُّم إجراءات حركة “طالبان” العسكرية والميدانية ضد السلطة الأفغانية، إذ يرتبط الموضوع حكماً بنظرة الدول الثلاث إلى جذور هذه السلطة “الأميركية الهوى والتوجه”.
إذاً، انسحبت واشنطن، ورأت طالبان تقفز إلى روسيا والصّين وإيران. وكما يبدو، الحركة صادقة، وتريد علاقات جيدة مع الدول الثلاث. ولذلك، اغتاظ الرئيس بايدن من هذا الموقف. وفي الوقت الّذي كان يراهن على خلاف واشتباك إيراني – طالباني، على خلفية مذهبية أو حدودية تاريخية، لم يحدث ذلك، بل على العكس، برهنت طهران، وبسرعة، على استراتيجية حكيمة في التعامل بواقعيّة مع نفوذ الحركة الحالي القوي، والمرتقب أنه سيكون أقوى.
وقد استُقبِلت وفود “طالبان” في موسكو – على الرغم من أن الحركة محظورة في روسيا – استقبال رجال دولة، وتم التباحث بندّية في كل المواضيع المشتركة، وكان مسؤولو الحركة صريحين وجريئين في عرض مطالبهم وطرح التزاماتهم. ولناحية الصين، لم يتأخَّر متابعون في فهم الموقف الصيني الداعم لحركة “طالبان”، والذي قوبل من الأخيرة بموقف مماثل.
من هنا، كانت المناورة الأميركية لاستلام تركيا أمن مطار كابول وحمايته، بهدف تأمين نقل ما تيسر من المتشددين إلى الداخل الأفغاني، وممن لا يرضخون لـ”طالبان” ولديهم خبرات عريقة في إثارة الفتن وتنفيذ الأعمال الإرهابية وخلق الفوضى القاتلة داخل أفغانستان أو خارج حدودها، وفي كل الاتجاهات، وتركيا لها باع طويل في نقل أمثال هؤلاء ورعايتهم، فهي مسؤولة، وبشكل مؤكد، عن إدخال الإرهابيين إلى سوريا ورعايتهم، ومَن غيرها أساساً يملك الحدود الكاملة شمالاً مع سوريا، ويرتبط براً وجواً وبحراً مع دول أوروبية ودول الاتحاد السوفياتي سابقاً، والتي كانت مصدراً أساسياً للإرهابيين الأجانب إلى الداخل السوري، وهي (أنقرة) تملك البنية المخابراتية المؤهلة للتعامل مع الداخل السوري!
أيضاً تركيا مسؤولة عن إدخال الارهابيين إلى ليبيا، وهذا موثق دولياً وغربياً وإقليمياً.
وإذا كان هناك قرار دولي بإنهاء التواجد الأجنبي في ليبيا بأسرع وقت، فمن الطبيعي أن تكون الأولوية لسحب الإرهابيين أو المسلحين قبل غيرهم. وإذا كانت روسيا تضغط لإنهاء وضع الشمال السوري بعد الانتخابات الرئاسية باللين أو بالقوة، فإن هناك صعوبة بإعادة القسم الأكبر من هؤلاء الإرهابيين إلى سوريا بعدما كانت نقلتهم أنقرة إلى ليبيا.
وإذا كانت مناورة الأميركيين ما زالت على حالها؛ إمّا عبر خلق المجموعات المتشددة، وإما استغلال الموجود منها، وإما نقل المتوفر منها إلى المناطق التي تريد أن تدمرها أو تستبيحها أو تخلق الأزمات فيها، وإذا كانت جغرافية أفغانستان غير مرتبطة برياً وبحرياً مع ليبيا.. فلم يعد ثمة وسيلة لنقل “الدواعش” والمتشددين من ليبيا إلى أفغانستان إلّا جواً، وعبر مطار كابول بالتحديد، والذي ما زال تقريباً مع الحكومة الأفغانية.
مَن الطرف الذي يعد جاهزاً لتنفيذ رغبات الأميركيين في هذا الإطار سوى إردوغان؟
إنَّ تجاربه في سوريا على الأقل ثابتة في ذلك، وهو الأنسب ليكون المشرف الأمين والقادر والأكثر تبعية للأميركيين في تنفيذ هذا المخطط، وعبر وحداته العسكرية المخابراتية التي سوف تستلم “وحيدة” مطار كابول، ولكن طبعاً، وكالعادة، سيتابع الصراخ والتصويب الإعلامي والسياسي على الأميركيين، لإكمال “المناورة – اللعبة – الكذبة”، وللإيحاء بأنه غير مرتهن للقرارات الأميركية.
المصدر: الميادين نت
Views: 1