لماذا تسليم الرئيس البشير وحده لمحكمة الجنايات الدوليّة وليس البرهان وحميدتي أبرز شُركائه في حرب دارفور؟ هل الفضل يعود للتّطبيع؟ وما هي الأسباب التي تدفعنا لعدم التّعاطف معه؟ وما هي تحفّظاتنا على هذه المحكمة وقراراتها؟
قرّرت الحُكومة السودانيّة رسميًّا اليوم تسليم الرئيس المعزول عمر البشير واثنين من مُساعديه هُما عبد الرحيم محمد حسين، وزير الدّفاع الأسبق، وأحمد هارون، حاكم ولاية جنوب كردفان السّابق، إلى محكمة الجنايات الدوليّة، بتُهمة ارتِكاب جرائم ضدّ الإنسانيّة خلال سنوات النّزاع في دارفور، وباتت عمليّة تسليمهم مُكبّلين بالأغلال وشيكةً جدًّا.
هذا القرار جاء بضَغطٍ من الولايات المتحدة ودول أوروبيّة أُخرى ومُعظمها، خاصّةً أمريكا، لا تَعترِف بهذه المحكمة، ولم تُصادق على ميثاق روما الذي انبثقت عنه، والشّيء نفسه يُقال عن دولة الاحتلال الإسرائيلي الصّديق الجديد للحُكومة السودانيّة التي لم تمتثل مُطلقًا لقرارات المحكمة التي طالبت بتسليم العديد من مُجرمي الحرب الإسرائيليين لجرائمهم الدمويّة في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة وجنوب لبنان.
لا نُجادل مُطلقًا في أنّ الرئيس البشير وحُكومته ومُساعديه، ارتكبوا جرائم حرب في دارفور أثناء فترة حُكمهم للسودان التي زادت عن 30 عامًا، ويتحمّلون بطريقةٍ وبأُخرى المسؤوليّة عن مقتل 300 ألف إنسان، ولكنّ السّؤال الذي يطرح نفسه هو عن عدم مُطالبة المحكمة نفسها بتَسليم الفريق أوّل عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس الرّئاسي الحاكم، وكذلك نائبه “حميدتي”، وهُما اللّذان كانا ذراعه الأيمن، وشارَكاه في جميع قراراته، وبطَريقةٍ أو بأُخرى في حرب دارفور ومجازرها.
الرئيس البشير يدفع ثمن سياساته وجرائمه أيضًا، وربّما يُفيد التّذكير أنّ حُكومته سلّمت المُناضل العالمي كارلوس إلى السّلطات الفرنسيّة قبل رُبع قرن وما زال يقبع خلف القُضبان مُنذ حينها، أيّ أنّه يشرب من الكأس نفسه، ولذلك يَصعُب على الكثيرين الدّفاع عنه، مُضافًا إلى ذلك الغرق في الفساد ونهب المال العام.
ويظَل من الإنصاف القول إنّ الرئيس البشير، ورغم جميع أخطائه، كان عونًا وسنَدًا للقضيّة الفِلسطينيّة، وكانت بلاده جِسرًا لإيصال الأسلحة إلى المُقاومة في قِطاع غزّة، ولعلّ هذا الموقف المُشَرِّف الذي لم يُحافظ عليه هو الذي أدّى إلى وضع السودان على قائمة الإرهاب، وليس استِضافته فقط زعيم تنظيم “القاعدة”، وبعض أعوانه، وإبعادهم بعد ذلك بضُغوطٍ أمريكيّة.
الرئيس البشير ارتكب أخطاءً قاتلةً سواءً في دارفور، أو بإرسال أكثر من 20 ألف جندي سوداني إلى اليمن للقِتال إلى جانب قوّات التّحالف السّعودي الإماراتي، والتّنازل عن ثُلُث السّودان بتوقيعه اتّفاق انفِصال الجنوب، وعرقلة المسيرة الديمقراطيّة في السّودان ومُمارسة كُل أنواع القمع ضدّ خُصومه، وعلى رأسهم الدكتور حسن التّرابي شريكه الأبرز في انقِلاب عام 1998، ولكن رُغم ذلك نُعارض تسليمه إلى هذه المحكمة التي لم تتسلّم، وتُحاكِم، أيّ مُجرم حرب إسرائيلي، علاوةً على كونه انتِهاكًا للسّيادة السودانيّة.
مِن اللّافت أنّ حكّام السودان الحاليين الذين طبّعوا العُلاقات مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي العُنصريّة المارقة، المُدانة في مجلس حقوق الإنسان الدّولي بارتِكاب جرائم حرب ضدّ الإنسانيّة أثناء العُدوان على غزّة عام 2014، يتذرّعون باحتِرام القوانين الدوليّة، ومحكمة جنايات دوليّة لم يَمثُل أيّ مُجرم حرب أمريكي أمامها من الجِنرالات والسّياسيين الأمريكيين الذين قتلوا أكثر من مِليونيّ شهيد عِراقي، سواءً أثناء الحِصار الذي امتدّ أكثر من 12 عامًا أو اثناء الغزو والاحتِلال عام 2003.
نحن في هذه الصّحيفة مع مُحاكمة جميع المُجرمين الذين ارتكبوا جرائم حرب في العالم بأسْرِه، من أمثال جورج بوش الابن، وتوني بلير وبنيامين نِتنياهو، وإيهود باراك، وليس الرئيس عمر البشير ومُساعديه فقط.
إنّها نهاية مأساويّة لرَجُلٍ فَشِلَ في الحُكم على الصُّعُد كافّة، ولم يحترم حُقوق الإنسان في بلاده، وقادَها إلى الفقر والجُوع والتّقسيم، وحوّل جيشها المشهور بوطنيّته وأخلاقه العسكريّة والعقائديّة العالية إلى جيشٍ مُرتزق بالزّج به لقِتال أكثر الشعوب العربيّة فَقْرًا وعزّة نفس وكرامة، ونحن نتَحدّث هُنا عن الشّعب اليمني.
ربّما يكون عزاء الرئيس البشير أنّه سينتقل إلى سجن مًختلف، يتَمتّع فيه ومُعاونوه بكُلّ الحُقوق التي تكفلها المحكمة له كسجين مُتّهم ومن بينها العِلاج الطبّي والدّفاع عن النّفس من قِبَل مُحامين مُحترمين، وسيقضي بقيّة أيّام حياته، هي ربّما قليلة فيما يبدو بسبب أمراضه العديدة وتقدّمه في السِّن، في زنزانةٍ أفضل بكثير من زنزانته في سجن كوبر سيء الذِّكر، وربّما لهذا السّبب أقدم محمد علي عبد الرحمن، زعيم الجنجاويد، واسمه الحركي “كوشيب” على تسليم نفسه للمحكمة مُبَكِّرًا.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”
Views: 0