لقد شهدت الساحة التركية، خلال الأيام القليلة الماضية فقط، عدداً من التطوّرات المثيرة والمهمة جداً، في ظلّ غياب الإهتمام الإعلامي الخارجي بها على الرغم من علاقتها المباشِرة بسياسات الرئيس رجب طيب إردوغان الخارجية ذات الطابع العقائدي والتاريخي والقومي.
مع انشغال الجميع بسياساته الخارجية، وأغلبيتها ذات طابع تاريخي وقومي وديني، يستمرّ الرئيس إردوغان في مساعيه لتطبيق ما يسعى لتحقيقه منذ استلامه السلطة نهاية عام ٢٠٠٢، لكن، بصورة خاصة، بعد ما سُمِّي الربيع العربي.
أرادت واشنطن وحلفاؤها في الغرب أن تستفيد الأحزاب والقوى الإسلامية في المنطقة من تجربة “العدالة والتنمية” “ذي الأصول الإسلامية في بلد مسلم وديمقراطي وعلماني”، كتركيا. استغلّ إردوغان هذا الدعم الأميركي له منذ البداية، فاستهدف المؤسسة العسكرية العلمانية، ووضع المئات من قياداتها في السجون، اعتباراً من عام ٢٠٠٨، بالتنسيق والتعاون مع حليفه السابق الداعية فتح الله غولان، الذي كان يسيطر آنذاك على الأمن والقضاء. وجاء “الربيع العربي” ليشجّع إردوغان على مزيد من الخطوات العملية في طريق أسلمة الدولة والمجتمع التركيَّين، وخصوصاً بعد أن أصبح طرفاً أساسياً في مجمل تطورات المنطقة، ومعه قوى الإسلام السياسي، المدنية منها والمسلَّحة. ولم تتأخَّر بدورها في مبايعته “زعيماً إسلامياً يناضل من أجل إحياء ذكريات السلطنة والخلافة العثمانيتين”، اللَّتَين قضى عليهما مصطفى كمال أتاتورك بين عامي ١٩٢٢ و١٩٢٤، وبعد أشهر من إعلان الجمهورية الحديثة عام ١٩٢٣.
استغلّ إردوغان هذه العلاقة بحركات الإسلام السياسي وقواه من أجل دعم موقفه في الداخل، بعد أن تغنّى بأمجاد الخلافة والسلطنة العثمانيتين عبر كل مقولاته وفعالياته، بما في ذلك المسلسلات التاريخية التي تتحدَّث عن هذه الأمجاد، من جنكيز خان، إلى محمد الفاتح الذي فتح إسطنبول، مروراً بملك السلاجقة آلب أرسلان الذي جاء إلى الأناضول في عام ١٠٧١.
ومن دون أن يهمل إردوغان اتِّخاذ الإجراءات العملية في طريق إحياء الخلافة والسلطنة، بحيث منح رجال الدين والمشايخ وجمعياتهم ووسائل إعلامهم امتيازات وصلاحيات واسعة باتت تزعج الشارع التركي، وخصوصاً بعد أن سيطر إردوغان على جميع أجهزة الدولة التركية ومرافقها غداةَ محاولة الانقلاب الفاشلة في ١٥ تموز/يوليو ٢٠١٦.
استغلّ إردوغان هذه المحاولة، فتخلَّص من جميع أتباع حليفه السابق غولان وأنصاره في الجيش والأمن والمخابرات والقضاء، وسيطر عليها جميعاً بعد تغيير النظام السياسي إلى رئاسي في استفتاء نيسان/أبريل ٢٠١٧، وقال عنه زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو إنه “مزوَّر”.
كما استغلّ إردوغان هذه السيطرة في مساعيه للتخلّص ممّن تبقّى من معارضيه، وخصوصاً العلمانيين، في مؤسسات الدولة، وذلك عبر إجراءات يتَّخذها يومياً في هذا الاتجاه. لقد شهدت الساحة التركية، خلال الأيام القليلة الماضية فقط، عدداً من التطوّرات المثيرة والمهمة جداً، في ظلّ غياب الاهتمام الإعلامي الخارجي بها على الرغم من علاقتها المباشِرة بسياسات إردوغان الخارجية ذات الطابع العقائدي والتاريخي والقومي. فإردوغان شارك، في الأول من الشهر الجاري، في الحفل التقليدي بمناسبة افتتاح السنة القضائية، ووقف إلى يمينه رئيس محكمة التمييز العليا، وإلى يساره رئيس الشؤون الدينية علي أرباش، وهو بمثابة المفتي العام ووزير الأوقاف. وأثار هذا المشهد ردود فعل عنيفة سياسياً وشعبياً، لأن رئيس المحكمة كان يردِّد الدعاء الذي تلاه رئيس الشؤون الدينية، وهو ما يتناقض مع الدستور العلماني واستقلالية القضاء.
ومن دون أن يبالي إردوغان بذلك، كما هو لم يبالِ بانتقادات المعارضة له عندما تقدَّم رئيس الشؤون الدينية على رئيس الأركان وقادة القوات المسلَّحة في حفل الاستقبال الذي أقامه إردوغان بمناسبة عيد النصر في ٣٠ آب/أغسطس. وجاءت تحية رئيس الأركان يشار غولار موجَّهة إلى أول ضابطة محجَّبة تتخرج من الكلية الحربية، التي تخرَّج منها مصطفى كمال أتاتورك، لتُثير عدداً من التساؤلات بشأن الدور المحتمل للدِّين ومكانته داخل المؤسسة العسكرية، ولم يبقَ لديها إلاّ القليل من تاريخها العلماني. لقد استغلّ إردوغان محاولة الانقلاب الفاشلة، وأغلق جميع الكليات والمدارس والمعاهد العسكرية، وأنشأ بدلاً منها جامعة الدفاع الوطني، التي يترأَّسها أستاذ مختص بالتاريخ العثماني. وتقبل هذه الجامعة طلبات الشبّان والشابات الذين يريدون الانتساب إلى الجيش، ويشاركون في امتحانين، أحدهما مكتوب والآخر شفهي، للتأكد من ميولهم السياسية والدينية وولائهم للرئيس إردوغان. وتقول المعارضة إن إردوغان، من خلال هذا الأسلوب، يهدف إلى تشكيل جيش عقائدي يقف إلى جانبه في كل مُهماته الداخلية والخارجية، وهي جميعاً ذات طابع عقائدي، دينياً وقومياً، كما هي الحال في سوريا وليبيا وكل الساحات التي توجَد فيها تركيا منذ “الربيع العربي”، وقريباً في أفغانستان!
لتكون هذه السياسات الخارجية متمِّمة لإجراءات إردوغان الداخلية، والعكس صحيح أيضاً، وإلاّ فلن يكون سهلاً على أحد فهم الأهداف الحقيقية لمجمل تحرُّكات إردوغان في الخارج والداخل، بما في ذلك تحويل متحف “آية صوفيا” التاريخي إلى جامع في ٢٤ تموز/يوليو من العام الماضي. إردوغان يحتاج إلى هذه التحركات الخارجية، في حماستها دينياً وقومياً، في حملاته الداخلية، التي يريد لها أن تساعده على تحقيق أهدافه، أولاً للتخلّص من إرث أتاتورك العلماني، ثم لإحياء ذكريات الخلافة والسلطنة، ولو بمسميات جديدة. ويفسّر ذلك استعجال إردوغان في أخذ مزيد من الخطوات العملية، على الصعيدين الخارجي والداخلي، ليتسنّى له تحقيق الجزء الأكبر من مشروعه، وذلك قبل الذكرى المئوية لقيام جمهورية أتاتورك العلمانية في ٢٩ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣.
وحتى ذلك التاريخ، سيفاجئنا إردوغان بكثير من المقولات والمواقف العملية، والتي بات واضحاً أنها ستحدِّد مصير تركيا ومستقبلها، في كل معطياتهما السياسية والاجتماعية والدينية، مع إردوغان أو من دونه. وهذا ما تراهن عليه أحزاب المعارضة وقواها، والتي ترى أن إردوغان يشكّل خطراً على مستقبل الدولة والأمة والجمهورية التركية. ويقول زعماء المعارضة إن إردوغان على وشك أن يدمّر كل قيمها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، وإلاّ فلمَ تورَّط في هذا الكمّ من الفساد الخطير في جميع المجالات، والذي لا مثيل له في تاريخ الدول والأمم. وهو ما يكرّره زعماء المعارضة يومياً، وفي مقدِّمتهم رئيس وزرائه السابق أحمد داود أوغلو.
الميادين
Views: 0