“فيلق الشام” هو الابن المدلَّل لتركيا، والأكثر تنسيقاً معها، ومن أكثر الفصائل تسليحاً وتنظيماً والتزاماً بالعقيدة. ويعتمد، فكرياً وأيديولوجياً، على تنظيم “الإخوان المسلمين” في الانتماء والعقيدة والمستند الشرعي.
للمرة الثالثة منذ بَدء عمليات الجيش الروسي في سوريا، تتعرّض مَقارُّ رئيسية ضخمة لـ”فيلق الشام” لهجمات مدمِّره من جانب الطيران الروسي، تؤدّي إلى تدمير كليّ للقواعد المستهدَفة مع مقتل وجرح العشرات من مقاتليه.
“فيلق الشام” هو الابن المدلَّل لتركيا، والأكثر تنسيقاً معها، ومن أكثر الفصائل تسليحاً وتنظيماً والتزاماً بالعقيدة. ويعتمد، فكرياً وأيديولوجياً، على تنظيم “الإخوان المسلمين” في الانتماء والعقيدة والمستند الشرعي. وبالتالي، عمدت تركيا دائماً إلى دعمه وتوجيهه وتسهيل مهمات عناصره، في التدريب والتسليح، كما حاول أن ينأى بنفسه عن كل الصراعات الداخلية التي عصفت بالفصائل المسلَّحة خلال السنوات السابقة. وبالتالي، كان حلم تركيا وأملها أن يكون الواجهة الرئيسية والأقوى لمشروعها في سوريا، سياسياً وعسكرياً، لكن قوة سائر الفصائل، وخصوصاً “هيئة تحرير الشام” و”الفصائل الجهادية” غير السورية المتحالفة معها، كالحزب الإسلامي التركستاني وأجناد القوقاز وجند الملاحم والمجموعات الشيشانية، بالإضافة إلى الفصائل المحلية المتشدّدة والمُرَحَّلة من المناطق السورية التي شهدت تسويات خلال الأعوام الستة الماضية، وانكماشها المناطقي وارتباطاتها الإقليمية والعشائرية، منعت إمكان
تحقيق الحلم التركي، المتمثّل بجعل “فيلق الشام” حصانَ طروادة الذي تعتمد عليه تركيا في تطبيق حزامها الشمالي، الذي يبرّر شرعية وجودها المديد والطويل الأمل، وهو أن تدمج مشروع حزام تركماني سُني في صبغه إخوانية، وتوليف هذين المتناقضين، أي التركمان السُّنّة السوريين مع العرب السنة السوريين، على أن تكون المرجعية، دينياً وشرعياً، هي الإخوانية، ليكونا حجر الارتكاز في تبرير وجودها الشرعي في سوريا.
لكن روابط الدم والتاريخ والعِرق التركماني منعت تركيا من تحقيق “عدلها المنشود” في الشمال السوري، ولم تستطع الدمج والتوفيق بين هذين المتناقضين، وبقي كل في موقعه، وظلاّ رأسين متقدِّمين لمشروع تركي استيطاني انفصالي، يمتدّ على كامل الشمال السوري.
الضربة الأكبر التي يتم فيها استهداف “فيلق الشام” كانت بتاريخ 26/10/2020، حين قامت الطائرات الحربية الروسية، بعد عملية رصد دقيق ومتابعة واختراق المجموعات الأمنية التابعة لقيادة “فيلق الشام”، بتدمير معسكر جبل الدويلة الواقع في شمالي غربي إدلب، قرب الحدود التركية، الأمر الذي أدّى إلى مقتل وجرح أكثر من 180 شخصاً كانوا يُقيمون بروفات نهائية لحفل تخريج دفعة من المقاتلين، كان مقرَّراً في اليوم الثاني، احتفالاً بذكرى سيطرتهم على كتيبة الدويلة للدفاع الجوي، والتي تم اجتياحها من جانب الفصيل الإخواني نفسه في الشهر العاشر من عام 2012، وارتكب حينها هذا الفصيل مجزرة بحق عناصر الكتيبة، بحيث استُشهد أكثر من 23 ضابطاً وعنصراً من المدافعين عن الكتيبة، وأُسر عدد آخر من المقاتلين وذُبحوا بعد ذلك، وتم تعليق رؤوسهم على مقدّمة إحدى سيارات الدفع الرفاعي التابعة لهذا الفصيل الإخواني، والذي كان يحمل اسم “لواء درع هنانو”، وهو العمود الفقري اليوم لـ”فيلق الشام”.
قُربُ المعسكر من الحدود السورية ـ التركية، ومرجعيةُ الفصيل الإخواني لما سُمِّي “الجيش الوطني”، وعدمُ شمول هذا التنظيم بالفصائل المصنَّفة إرهابية، لم تمنع روسيا من توجيه هذه الضربة القاسية والمؤلمة إلى تركيا، والتي كان هدفها توجيه رسالة واضحة وصريحة، ومفادها أن كل الأراضي السورية الخارجة عن نطاق سلطة الدولة السورية وقرارها مُباحٌ لنا استهدافها، وتدمير كل المجموعات غير الشرعية الموجودة فيها، ولا خطوط حمراء بالنسبة إلى أيّ تنظيم أو فصيل أو منطقة داخل كل الحدود السورية.
التبريرات السورية والروسية أن الجميع مُنضَوٍ ضمن غرف عمليات موحَّدة تحت قيادة “هيئة تحرير الشام”، المصنَّفة إرهابية، وأن الكل يقاتل في جبهات قتالية واحدة، والكل ينسّق مع أعداء سوريا وله ارتباطات خارجية، وأيادي الكل ملطَّخة بالدماء، ولا حصانة لأيّ تنظيم أو فصيل معارض يحمل السلاح ضد الشرعية السورية.
الضربة الثانية المفاجئة هي التي حدثت مؤخراً، واستهدفت منطقة درع الزيتون، التي هي تحت السيطرة الروسية، واستهدفت أيضاً معسكراً يقع في بلدة إسكان التابعة لمنطقة عفرين. وهذا المعسكر تابع أيضاً لـ”فيلق الشام” التابع لتركيا، ويتموضع أيضاً بالقرب من مناطق تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام”.
العملية أسفرت عن مقتل عدد من الإرهابيين السوريين وغير السوريين. لم تعلن قيادة الفيلق حجم خسائرها في هذا الهجوم. وما تسرّب من مصادر خاصة يفيد بأن الضربة الجوية، والتي نفّذتها طائرات روسية عبر خمس غارات استهدفت المعسكر، نتجت منها الخسائر التالية:
ـ تدمير المعسكر بالكامل.
ـ تدمير مستودع للأسلحة، وتدمير مقارّ تدريب وتجهيزات اللياقة والتحمّل.
ـ تدمير إحدى عشر آلية عسكرية، وسيارات نقل وخدمة.
ـ تدمير سيارتَي دفع رباعي عليهما رشاشات ثقيلة من عيار 23 مم.
ـ مقتل سبعة مقاتلين وجرح تسعة عشر بجروح متعددة، جروح خمسة منهم بليغة.
وهناك مدرِّبون غير سوريين قُتلوا، وهم محمد الحاجي من الجنسية الإيرانية، وملقَّب بأبي آية المهاجر، وهو من عبدان. وقُتِل أيضاً محمد شموروخ، وهو إيراني الجنسية من الفلاحية، وملقَّب بأبي نيروز المهاجر.
من خلال عرض لحظات الاستهداف والمعلومات المسرَّبة من المقاتلين، تبيَّن أن تركيا أعلمت الفصائل قبل ربع ساعة بضرورة إخلاء المعسكر. وعلى ما يبدو، فإن التنسيق الروسي ـ التركي والاتفاقيات الموقَّعة بين الطرفين تُلزم روسيا بإعلام تركيا بمجال عمل الطائرات والهدف المحدَّد وساعة الاستهداف والموقع. وبالتالي، يُلاحَظ، بالرغم من حجم التدمير الكبير الذي تعرّض له المعسكر، أن الخسائر البشرية قليلة. وبالتالي، يبدو أن تركيا انتزعت من روسيا قراراً أو اتفاقاً يقضي بحتمية التنسيق قبل أيّ نشاط عسكري أو استطلاعي للطيران الروسي في إدلب، بعد ضربة العام الماضي في جبل الدويلة قرب لواء إسكندرون المحتل.
الهدف والموقع والمتابعة والاستطلاع والتنسيق على الأرض قام به عناصر سوريون، وهذا يدلّ على حجم الاختراق والمتابعة من جانب أجهزة الأمن السورية لنشاط المجموعات المسلَّحة وتحركاتها، الأمر الذي يدلّ على أن للدولة السورية أذرعاً أمنية وقوى بشرية من الوطنيين السوريين المقيمين بهذه المناطق، قادرة على المراقبة والتسجيل والمتابعة لكل نشاطات المعارضة المسلَّحة في معاقلها وداخل أسوارها المغلقة، وحتى ضمن مراكز صناعة القرار لهذه المجموعات الإرهابية.
المبرِّر الأساسي لقبول الجانب الروسي تنفيذَ هذه العملية، والصمت المُطْبِق لتركيا بشأنها، يفيد بأن المعلومات التي تتوافر لدى أجهزة الأمن السورية تؤكد أن تركيا تقوم بعملية استقطاب ونقل لمقاتلين من “داعش” كانوا في سجون “قسد” خلال السنوات السابقة. وعبر التنسيق بين الاستخبارات التركية والأميركية، تمّ إطلاق سراح هؤلاء، ونُقلوا إلى الأراضي التركية، وتقوم تركيا بإعادة دمجهم وتدريبهم وتأهليهم قادةً ميدانيين لدى فصائل ما يُسَمّى “المعارضة السورية المعتدلة”. وسبق لبعض المواقع المُعارِضة، والمختلِفة مع السياسات الروسية، أن نشرت أسماء مئات من عناصر من “داعش”، تم نقلهم إلى داخل تركيا، ثم إلى سوريا، وتمّ ضمّهم إلى عدة فصائل محسوبة على ما يُسمى “الجيش الوطني”، الذي تشرف عليه تركيا.
الغارة الجوية على معسكر منطقة إسكان هي أيضاً رسالة روسية إلى تركيا، مفادها أن لا منطقةَ آمنةٌ، ولا حزامَ تركمانيّاً أو إخوانياً آمِنٌ داخل الأراضي السورية. وكل المناطق الخارجة عن سلطة الدولة السورية يحقّ لسوريا وروسيا استهدافها، بغضّ النظر عن تبعية الفصائل التي تحتلّها، وعن تصنيفها إقليمياً ودولياً، وعن مدى قربها من تركيا أو غيرها.
لكنَّ هذا الهجوم يحمل أهمية خاصة، كونها المرة الأولى التي تستهدف فيها روسيا منطقة عفرين، منذ سيطرة المعارضة السورية والجيش التركي عليها، في عملية “غصن الزيتون” عام 2019. ومن المعلوم أنَّ الشرطة العسكرية الروسية انسحبت من المنطقة قبيل دخول المعارضة السورية والجيش التركي لها، في إطار تفاهم تركي ـ روسي بقيت بموجبه القوات الروسية بعيدة عن أيِّ تصعيد أو رسائل متبادَلة في هذه المنطقة بالذات، الأمر الذي يوحي إلى تركيا أن كل التفاهمات سقطت بما أن تركيا لم تلتزم ما اتَّفقت عليه مع روسيا في تطبيق اتفاق الـ”أم 4″، الذي تلتزم تركيا بموجبه إقامة منطقة منزوعة السلاح في شماليّ ـ وجنوبيّ ـ الطريق الدولي من سراقب إلى منطقة عير حور في شمالي اللاذقية، والذي تتلكّأ تركيا في تنفيذه، بل تساعد التنظيمات الإرهابية في عمليات الدعم الناري، واستهداف مواقع الجبهة في كل القطاعات في ريف إدلب الجنوبي وسهل الغاب وشمالي اللاذقية.
من المرجَّح أيضاً أنَّ التصعيد عبر الغارات الجوية، في هذه المنطقة، يحمل رسالة سياسيّة من روسيا إلى تركيا، مفادها ضرورة وقف الهجمات التركية الجوية والمدفعية على مواقع تتبع “قوات سوريا الديمقراطية” (“قسد”) تقع ضمن النفوذ الروسي، بحيث تُنفّذ تركيا منذ منتصف آب/ أغسطس2021 سلسلة من الاغتيالات عن طريق الطائرات المسيَّرة، أدَّت إلى مقتل ثلاثة قادة ميدانيين من “قسد” بالقرب من تل تمر وعين العرب، بالإضافة إلى ضربات مدفعية مكثَّفة تتركز على منبج وعين عيسى، والمرجَّح أنَّ تلك الهجمات غير منسَّقة مع الجانب الروسي.
تسعى تركيا أيضاً، من خلال تصعيد هجماتها، للضغط من أجل دفع موسكو إلى الوفاء بتعهداتها التي قطعتها في قمة “سوتشي” أواخر عام 2019، والمتمثّلة بضرورة إكمال الحزام الأمني في الشمال السورية، والذي ترفضه سوريا طبعاً، فجاء الرد الروسي في عفرين بمثابة جواب، مفاده أنَّ موسكو تمتلك أوراق ضغط مؤثّرة في الجانب التركي، ولن تذعن للضغط الميداني الذي عادة ما تستخدمه روسيا أيضاً في إدلب.
أكد بعض المعلومات الميدانية أنه جرى نقل بعض القادة المصابين من داخل المعسكر في سيارات مصفَّحة تابعة لـ”فيلق الشام”، وتم استهدافها بطائرات مسيَّرة مجهولة عندما كانت متَّجهة إلى مستشفى عفرين. وبالتالي، إن صدقت هذه المعلومات فإن تعاوناً وتنسيقاً روسيَّين مع عدة أطراف دولية، وربما مع “التحالف” أو غيره، تمّا في أثناء تنفيذ هذا الهجوم، لأن هناك خطوطاً ساخنة مفتوحة بين الطرفين فيما يتعلّق بحركة الطيران الحربي والطيران الاستطلاعي الخاصَّين بكل جهة، من أجل تحاشي الاستهدافات المتبادّلة بين الطرفين. هذه تحليلات، وليست هناك معلومات مؤكَّدة تفيد بالجهة التي استهدفت سيارات الفيلق التي كانت تنقل القتلى المصابين.
إذاً، الرسائل بالنار، والتصعيد العسكري المتبادَل، ورفع سقف الأطراف المتصارعة في الساحة السورية، وإصرار الدولة السورية على حقّها في تحرير كل المناطق الخارجة عن سلطتها، هي سمة المرحلة المقبلة. وأعتقد أنها ستكون أكثر سخونة بعد إنجاز تحرير درعا، ونقل مَن تبقّى من مقاتليها إلى الشمال السوري، الذي لا يرحّب قادة المجموعات المسلّحة فيه، فيما يبدو، بعودة هؤلاء المقاتلين وعائلاتهم إلى المناطق الشمالية، التي ستُضيف مجموعة أخرى من الفصائل المتناحرة والمتصادمة، إلى مربّعاتها الأمنية والإمارات التي تتقاسمها، عشراتِ المجموعات المتصارعة والموجودة تحت رايتَي الاحتلال التركي و”جبهة النصرة”، المَرضِيّ عنها من جانب أميركا.
الميادين
Views: 1