انخفض سعر صرف الدولار بعد تشكيل الحكومة في الأيّام الماضية، بشكلٍ كبيرٍ وسريعٍ ليصل إلى حوالى 13500 ليرة أمس. ولم تكد تسعَّر صفيحة البنزين على سعر 12000 ليرة، حتى عاود الدولار ارتفاعه ملامساً الـ15000 ليرة. وفيما تشكيل الحكومة يُعتبر بداية مفترَضة لحلّ الأزمة الاقتصاديّة، إلى جانب المؤشّر السياسيّ والنفسيّ، هل من شرحٍ تقنيّ وعلميّ لهذا التغيّر في سعر الصرف؟ وإلى أين يتّجه؟
يمكن فهم سبب ارتفاع سعر صرف الدولار أكثر من انخفاضه، وبحسب الأكاديميّ والخبير الاقتصاديّ، الدكتور بيار الخوري، وفي حديثه لـ”النهار”، يجب التمييز بين السعر الاقتصاديّ للدولار، الذي يجب أن يكون ما فوق الـ8000 أو الـ10000 ليرة، والسعر المرتبط بالاختناقات في عمق الزجاجة، حيث يتواجد الاقتصاد اللبنانيّ، وفي ظلّ غياب أيّ استراتيجية وحوكمة اقتصادية، مع ضعف احتياطيّ مصرف لبنان، لذلك، “لن يكون هناك سقفٌ لسعر الدولار”، يقول الخوري.
وعن مصير سعر الصرف، يورد الخوري أنّ “هيكليّة سوق الصرف في لبنان، تسيطر عليها مراكز ماليّة، وليس سلطة نقديّة، وبذلك، رفع سعر الصرف وخفضه بيد هذه المراكز، إلّا أنّ انخفاض سعر الصرف 40% في غضون 5 أيّام لا يقرب إلى المنطق”. ويضيف أنّ “مَن يشتري الدولارات في السوق السوداء ليس “غبيّاً” ليعطي الليرة مقابل حصوله على الدولار، فهو على دراية أنّ العناصر الأساسيّة التي تحسّن الليرة غير موجودة”. لذلك، لا يُفسّر الانخفاض السريع في سعر صرف الدولار في السوق السوداء، طالما لا زلنا نشهد عمليّات مضاربة.
لكن ما يهمّ معرفته، هو أنّ الناس الذين باعوا دولاراتهم في الأيّام الماضية، لم يستندوا إلى ثقة بالوضع الاقتصاديّ الذي نتّجه نحوه، إنّما وثقوا بعاملٍ واحدٍ، وهو تشكيل الحكومة. ويوضح الخوري أنّ “صحيح أنّ تشكيل الحكومة هو واحد من التغيّرات التي يجب أن تحصل، للذهاب عكس الأزمة، لكنّه عامل واحد فقط، إنّما هناك مجموعة متغيّرات تحتاج إلى قرارات سياسيّة كبيرة، وتوافقات مع مؤسّسات دوليّة، وإقليميّة في مكان ما، إلى جانب حوكمة سليمة في الداخل اللبنانيّ، لكنّنا لم نرَ أيّاً من هذه العوامل بعد”.
لكن هل من سعر أدنى للصرف يمكن أن يصل إليه الدولار؟ يجيب الخوري أنّ المراكز الماليّة تتّخذ القرارات بخفض أو رفع سعر الدولار استناداً إلى جوّ نفسي معيّن، و”السعر المنطقيّ اليوم هو السعر الذي تفرضه الآفاق الاقتصادية في لبنان، لكن حتى الآن، لا سقف لهذا السعر”، وفق الخوري، إذ لا رؤية إيجابية حقيقية للمستقبل، يمكن الاستناد إليها، في غياب المشاريع والاتفاقيّات الدوليّة. ولم تتّضح مسألة النفط والغاز في لبنان بعد، ولا ترسيم الحدود”. وبالتالي، “سعر صرف الدولار غير خاضع للتوقّع الاقتصاديّ”.
في السياق نفسه، وفي قراءة لتغيّر سعر صرف الدولار في الأيام الماضية ومصيره، تشرح الخبيرة في الشأن النقديّ، الدكتورة ليال منصور، لـ”النهار”، أنّ “سعر صرف الدولار يعبّر عن حالة الاقتصاد الحاليّة وعن توقّعات مستقبلية”، ويقترن بشقّين سياسيّ واقتصاديّ.
وتوضح أنّ في الشقّ السياسيّ، قد يكون انخفاض سعر الصرف نوعاً من التفاؤل بالتوقّعات، بعد انتظارٍ طويل لتشكيل الحكومة، وهناك ترويج لهذه الحكومة، ومن صالحها أن تسوّق لنفسها في الانتخابات المقبلة القريبة.
أمّا في الشقّ الاقتصاديّ، فـ”لا يمكن أن يكون هناك تبرير اقتصاديّ لانخفاض سعر صرف الدولار، إذ لم يتحسّن أيّ مؤشّر اقتصاديّ في لبنان، ولا حتّى المؤشر النفسي ،لا على مستوى الاستهلاك ولا الاستثمار ولا المصارف ولا التعليم. إذاً بناءً على ماذا سيتحسّن سعر الصرف؟”، تسأل منصور.
لكن مع بثّ الأجواء الإيجابيّة، والتسويق لهذه الحكومة الجديدة، هل يصل سعر صرف الدولار إلى مستويات منخفضة؟ برأي منصور، هناك كتلة نقدية ضخمة بالليرة، أصبحت في السوق منذ حوالى عام ونصف حتى اليوم، وزادت حوالى 10 مرات، و”هذا الأمر يكفي لأن يؤكّد أنّه من غير الممكن أن ينخفض الدولار أكثر ممّا هو عليه اليوم، بالإضافة إلى أنّه لم تدخل دولارات تروي لبنان من عطشه لهذه العملة”. وحتى الدولارات التي دخلت صيفاً من المغتربين، تُخبَّأ في البيوت للأيام الأصعب، فأصحاب الأموال الذين تأذّوا من المصارف، لن يسلّموا رقابهم مجدداً لها. لذا، “من المستحيل أن ينخفض سعر صرف الدولار أكثر ممّا هو عليه الآن، إذا ما تحدّثنا فقط عن شقّ اقتصاديّ دون الشقّ السياسيّ”، وفق منصور.
كيف ترافق انخفاض سعر صرف الدولار مع رفع الدولار، بينما المفترض هو العكس؟
ومن المعلوم أنّ رفع الدعم سيؤثّر سلباً على سعر صرف الدولار ويرفعه، لكن مؤخراً شهدنا انخفاضاً سريعاً في سعر الدولار، ترافق مع رفع دعم تدريجيّ عن المحروقات، بحيث أصبحت صفيحة البنزين المدعوم على 12000 ليرة مثلاً.
ويعلّق الخوري على هذا الواقع، بأنّ “ما يحصل قد يكون نوعاً من تليين النفوس تجاه رفع الدعم، والناس سيقبلون بدفع 50 ألف ليرة إضافية على صفيحة البنزين، مقابل عدم الوقوف في الطوابير. وما حصل في السوق السوداء من انخفاض في سعر صرف الدولار، قد يكون لدفع الناس لتقبّل رفع الدعم دون تشنّج واعتراضات في الشارع، وبعد تقبّل الناس رفعَ الدعم، يمكن أن نرى تغيّرات في السوق السوداء”.
وفي الإطار نفسه، وعن علاقة رفع الدعم وتغيّر سعر صرف الدولار، توضح منصور أنّ رفع الدعم من المفترض أن يؤدّي إلى ارتفاع سعر صرف الدولار. لكنّ تشكيل الحكومة امتصّ الغضب بترويج التفاؤل، وإعطاء وعود بدخول الدولارات من الخارج، والإصلاحات، إنّما يجب توضيح أنّه حتى الآن، لم تفتح محطات الوقود أبوابها، ولم نرَ تأثير رفع الدعم عن البنزين، لأنّ أحداً لم يشترِ البنزين على السعر الجديد. ومن المفترض أن يستهلك الناس البنزين بالكمية نفسها، لأنّ رفع الدعم نُفّذ تدريجيّاً، وتقبّلوه، و”سنشهد ارتفاعاً بسيطاً في سعر صرف الدولار بسبب ارتفاع سعر البنزين”.
وتلفت منصور إلى أنّ “تأثير رفع الدعم عن المازوت أكبر بكثير منه على البنزين، لأنّ المازوت هو عصب العجلة الاقتصاديّة”، وهو مطلوب في كلّ منزل ومؤسسة وقطاع. لذلك، تأثيره على الاقتصاد ككلّ سيكون سلبيّاً جدّاً، بنظر الدكتورة، لأنّنا نعيش في أزمة اقتصادية، ورفع الدعم في بلدٍ مأزوم اقتصاديّاً هو قتل للاقتصاد، لذلك، “لرفع الدعم عن المحروقات جوانب سلبيّة جدّاً”.
Views: 1