علي فواز
غيرُ معهود البيانُ الصادر عن القيادة المركزية الأميركية عقب استهداف قاعدة التنف في سوريا. تحدَّث البيان عن “الاحتفاظ بحق الدفاع عن النفس والرد على الهجوم في الزمان والمكان الملائمين”. أدبيات لطالما كان يُعايَر بها محورُ المقاومة والقيادةُ السورية على الرغم من أسبابها الوجيهة في الحالة السورية. من هذه الأسباب إشهارُ موقف مبدئي بشأن “الحق”، من دون التقليل من أهمية الموقف، أيّ موقف، في صراع الإرادات. كذلك عدم الانزلاق إلى خُطوات ومواضع قد تكون ملائمة في توقيتها وظروفها للعدو، بينما هي غير ملائمة لجهة محور المقاومة، الذي يراعي ترتيب الأولويات في حرب كونية خيضَت فيها المعارك بشتّى الوسائل، على امتداد مساحات شاسعة وعبر فترة زمنية طويلة، بدأت آخر فصولها الاستراتيجية مع “عشرية النار” في سوريا، لتمتدّ عقداً من الزمن، ولا تزال مستمرة.
بيان الجيش الأميركي لا تتطابق ظروفه مع الظروف آنفة الذكر لمحور المقاومة، لكنّ العبارة الواردة بشأن “الردّ على الهجوم في الزمان والمكان الملائمَين”، قد تُغْري بإسقاطات ومقارنات. من ذلك أن الظروف تبدّلت. هي ليست الظروف نفسَها قبل سنوات في الساحة السورية، فالتوازنات والمعادلات، التي انقشع عنها غبار المعارك بعد عقد من الزمن، انعكست في لغة الخطاب، عسكرياً وسياسياً، ومن ضمنه ما جاء في بيان القيادة المركزية الأميركية.
انقلبت الأدوار والأحجام، وبات الأميركي هو مَن يتحدث عن حقّ الرد، الأمر الذي كان يُصْعُب تخيّله قبل سنوات خلت.
بمعزل عن هذه النقطة، ما زالت مساحة من الغموض تكتنف ما حدث، منذ العدوان الذي وقع ابتداءً منذ نحو أسبوع، والوعيدِ الذي أعقبه من “حلفاء سوريا”، مُنذراً بردّ حتمي و”قاسٍ جداً”، وصولاً إلى تنفيذ الرد، والبيان الصادر عن الطرف الأميركي.
الغموض ينسحب على البيان الأميركي المقتضَب، والذي اكتفى بالإشارة إلى “هجوم متعمَّد ومنسَّق بطائرات مُسيَّرة”، وإلى عدم وقوع إصابات في صفوف القوات الأميركية، التي “تحقق” و”تواصل العمل مع شركائها للتأكُّد مما إذا سقط لديهم ضحايا”.
لم يكن العدوان الأخيرُ، والذي وقع في تدمر بريف حمص الشرقي، الأولَ من نوعه، على الأقل في الشهور الأخيرة. إذ سبقه عدوان إسرائيلي في الثامن من الشهر الحالي، استهدف محيط مطار “تي فور” في ريف حمص. وقبل ذلك، تصدّت الدفاعات الجوية السورية لاعتداء إسرائيلي آخر على محيط العاصمة دمشق، وأسقطت معظمَ الصواريخ (بحسب البيان الرسمي) في 3 أيلول/سبتمبر الماضي. أيضاً، تصدّت الدفاعات السورية في شهر آب/أغسطس الماضي لأهداف معادية في ريفي دمشق الغربي وحمص الجنوبي. وفي الـ 22 من تموز/يوليو، تصدّت الدفاعات السورية لصواريخ معاديةٍ في محيط مطار الضبعة العسكري في ريف حمص الجنوبي الغربي.
كل ذلك يدفع إلى السؤال عما دفع “حلفاء سوريا” إلى الرد على العدوان الأخير دونما غيره؟ بالتأكيد، ثمة سبب وجيه يتعلّق، في الغالب، بكسر قواعد الاشتباك، أو تخطي الخطوط الحمر، أو طبيعة الاستهداف الإسرائيلي.
في حال كان العدوان الإسرائيلي الأخير استهدف عناصر من حزب الله فإن الرد في هذه الحالة يأتي محكوماً لمعادلة سبق أن أعلن عنها السيد حسن نصرالله قبل سنوات، ومفادها أن أي اعتداء إسرائيلي على عناصر من حزب الله في سوريا لن تبقى من دون رد.
في المعطيات المتوافرة، لُحظَ في بيان “حلفاء سوريا”، الصادر قبل أسبوع، ما يلي:
أولاً، أقرّ البيان بارتقاء شهداء ووقوع جرحى. ثانياً، قال إنه “لولا الانتشار لَكان عدد شهداء الاعتداء كبيراً جداً”، الأمر الذي يُستَشف منه أن الهدف كان إيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى. ثالثاً، حدَّد أن الهجوم انطلق عبر سماء الأردن ومنطقة التنف السورية. رابعاً، حدَّد أن الهجوم تمَّ بواسطة طائرات إسرائيلية.
سؤال آخر يطرح نفسه في هذا السياق: لماذا جرى اختيار قاعدة التنف هدفاً للرد، وليس هدفاً إسرائيلياً خالصاً؟
بمعزل عن الجواب، فإنّ من الواضح أن الرد، في حد ذاته، يحمل قدراً كبيراً من الجرأة ومن القوة نظراً لطبيعة الهدف، وهو بمنزلة رسالة ميدانية نارية لا بدّ من أن تترك انعكاساتها ومفاعليها على معادلات الردع وتوازن القوى في سوريا. فهذه هي المرة الأولى، التي يتم فيها استهداف القاعدة بصورة مباشِرة، وهي قاعدة تمثل رمزية كبيرة. كما أنها المرة الأولى التي يستهدف فيها حلفاء سوريا الوجود الأميركي في سوريا، على نحو مباشِر، مع ما يرافق ذلك من دلالات مهمّة وخطيرة.
من ضمن ذلك، أن قرار الرد واختيار الهدف لا يقلاّن أهمية عن النجاح في تنفيذ المهمة. لقد تمكّن المهاجمون من اختراق الإجراءات الدفاعية في المنطقة، وأصابوا أهدافهم بدقة، متجاوزين كلَّ إجراءات الحماية والرقابة والرادارات المنصوبة من أجل رصد أيّ تحرك على بعد عشرات الكيلومترات من القاعدة الأميركية، وفي ذلك أيضاً مغزىً غير بسيط.
لا تغيب أيضاً عن المشهد طبيعةُ القاعدة ودورها المفترض في قطع الطريق على محور المقاومة، وهو الطريق الممتدّ من طهران، مروراً بالعراق وسوريا، وصولاً إلى لبنان. تترك الضربات نُدوب بصورة مباشرة على وظيفة هذه القاعدة إذاً، وتهدّد دورها الذي بات “ساقطاً عسكرياً”. هذا عدا عما يُحكى عن تِقْنيات متقدمة جداً تحتوي عليها القاعدة، وهو ما يتيح لها إمكانات تجسسية تميّزها من غيرها من القواعد الأميركية في سوريا والعراق.
بالإضافة إلى ما تقدم، تُوجز أوساط مواكبة دلالات ما حدث في أن غرفة عمليات “حلفاء سوريا” بدأت استراتيجية جديدة ضد الوجود الأميركي في سوريا. المعادلة الجديدة، والمتمثّلة باستهداف الوجود الأميركي مباشرة، هي تعبير عن تغيير قواعد الاشتباك، بعد محاولات ومساعٍ مع الجانب الروسي لوقف الاعتداءات الإسرائيلية الأميركية، لكن من دون جدوى. العملية تقع في إطار ردع الأميركيين، وضمان أمن سوريا وحلفائها، وذلك بعد مدة من الصبر الاستراتيجي. وبذلك، يكون محور المقاومة وجَّه ضربة تناسبية رداً على العدوان الإسرائيلي الأميركي على منطقة تدمر قبل نحو أسبوع.
الميادين
Views: 5