علاء حلبي
خلافاً لما أظهرته من تردّد وضبابية منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، ألقت الولايات المتحدة، خلال الأيام القليلة الماضية، بثقلها في الشرق السوري، في محاولة لحرف مسار التطوّرات التي كانت تتّجه نحو تسوية تستعيد بموجبها الحكومة السورية مناطق خاضعة لسيطرة «قسد» على خطّ التماس مع مناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركيّاً. تدخّلٌ سرعان ما ألقى بظلاله على جهود التسوية السورية – الروسية، خصوصاً في ظلّ تلقّي «الإدارة الذاتية» وعوداً أميركية متجدّدة بإبقاء الدعم وتعزيزه، فضلاً عن تطمينات إلى الوجود العسكري لواشنطن في شرف الفرات إلى أمد غير معلوم. مع ذلك، لم يضرب الجمود المحادثات بين موسكو و«قسد»، التي يُفترض أن تتجدّد خلال الساعات المقبلة، وسط ما يبدو أنه توجّه كردي لحفظ «خطّ الرَجْعة» مع روسيا، وإن في ظلّ محاولات هذه المرّة لاستثمار الزخم الأميركي في الضغط على الروس والسوريين وانتزاع مكاسب منهم
تأخّرت الزيارة الكردية إلى موسكو، والتي كانت مقرّرة قبل نحو أسبوعين، بعد أن قطعتها جولة أميركية قادها نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، إيثان غولديريتش، تضمّنت عقد سلسلة لقاءات مع قيادات «قسد» و«مسد»، وأخرى مع ممثّلين عن «المجلس الوطني الكردي» المدعوم تركياً، بالإضافة إلى لقاءات مع وفد من «الائتلاف المعارض»، و«هيئة التفاوض» المعارِضة، وقوى أخرى. على أن مصادر كردية متقاطعة أكّدت، لـ«الأخبار»، أن وفداً كردياً برئاسة إلهام أحمد، سيلتقي خلال اليومين المقبلَين مسؤولين روساً، لمناقشة وجهة النظر الكردية في شأن المسار الروسي للتسوية. وأفادت المصادر بأن الوفد الكردي سيقدّم لموسكو «ورقة جديدة» حول المسار الذي تَعتقد «قسد» أنه يمكن أن تُبنى عليه تفاهمات جديدة، تتضمّن «الحفاظ على القوات الكردية»، وعدم المساس بـ«مشروع الإدارة الذاتية»، الأمر الذي يعيد مشروع «فدرلة سوريا» الذي تنادي به «قسد» إلى الواجهة مرّة جديدة، وهو ما رفضته دمشق وموسكو مراراً خلال السنوات الماضية.
وعلى خلاف الموقف الضعيف الذي وجدت «قسد» نفسها فيه خلال الشهرَين الماضيين، يسافر الوفد الكردي هذه المرّة مُحمَّلاً بوعود أميركية باستمرار الغطاء على «الإدارة الذاتية»، وضمان كبح جماح أنقرة، بالإضافة إلى العمل على فتح المعابر مع العراق، وتوفير دعم مالي لبناء هيكل اقتصادي، والبحث عن حلول يمكن من خلالها تجاوز عقوبات «قيصر»، مقابل مزيد من التقارب بين «قسد» و«المجلس الوطني الكردي»، يمهّد لتقارب آخر يشمل «الائتلاف المعارض». الطرح الأميركي، الجديد – القديم، وعلى الرغم من المعوّقات العديدة التي تواجهه، وأبرزها الموقف التركي المتشدّد تجاه حزب «الاتحاد الديموقراطي» الذي يقود «قسد»، والذي تتّهمه أنقرة بأنه أحد أذرع حزب «العمال الكردستاني» المصنَّف على لوائح الإرهاب التركية، تَعتبره «قسد» فرصة يمكن اغتنامها في المسار التفاوضي مع موسكو، و«ورقة ضغط» تسعى من خلالها إلى تحصيل مكاسب جديدة. وبالإضافة إلى المحاولات الأميركية لتوحيد صفوف المعارضة والزجّ بـ«قسد» في صفوفها، الأمر الذي من شأنه أن يُحقّق، من وجهة النظر الأميركية، «توازناً» يمكن توظيفه في العملية السياسية، تحاول واشنطن أيضاً «تجميد الوضع الميداني»، وضمان استمرار فتح خطوط الإمداد العابرة للحدود. وهي ملفّات تسعى موسكو، في المقابل، لإغلاقها عن طريق تحقيق خروقات ميدانية، وحصر خطوط الإمداد والمساعدات بالممرّات الداخلية، لمنع زيادة التأثير الخارجي على الملفّ السوري من جهة، وتمهيد الأرض لمصالحات مستقبلية من جهة أخرى.
تعتبر «قسد» الطرح الأميركي ورقة يمكن استخدامها في المسار التفاوضي مع موسكو
الوفد الأميركي ركّز، خلال لقاءاته، على سيناريو درعا، واعتبره «تهديداً» لمشروعَي «قسد» و«المعارضة»، وقدّم التقارب بين الأكراد و«الائتلاف» على أنه الحلّ الأمثل لمنع وقوع مثل هذا السيناريو، وهو ما تمّ «العزف» عليه أيضاً لحشد الشارع ضدّ الجهود الروسية، ليُترجَم ذلك سريعاً بإعاقة مرور دورية روسيّة في دير الزور، بالإضافة إلى عملياتِ قطعٍ للطرق التي تربط مواقع سيطرة «قسد» بمناطق سيطرة الحكومة السورية. ولم تكد تُسجَّل تلك الحوادث حتى سارعت واشنطن إلى استغلالها إعلامياً، عن طريق إرسال دورية لـ«حلّ الخلاف» بشكل يسوِّق لوجود حاضنة شعبية للحضور الأميركي في مناطق «قسد»، ورفض للدور الروسي، خصوصاً أن هذه الاحتكاكات تزامنت مع المساعي السورية – الروسية الجديدة لإبرام تسويات في دير الزور. ويتمثّل سيناريو درعا الذي تنذر واشنطن بوقوعه، في أن استمرار توسّع نفوذ روسيا في مناطق الأكراد، سيؤدّي في وقت لاحق إلى تسليم المناطق المذكورة للحكومة السورية من دون تحصيل أيّ مكاسب أو إجراء أيّ تغيير حقيقي على الأرض، الأمر الذي يمثّل انتصاراً لدمشق، وهو ما لا ترغب فيه واشنطن.
ولا تُعتبر الجهود الأميركية الأخيرة، جديدة، وإنّما جاءت استكمالاً لمسارٍ تحاول واشنطن الدفْع به مجدّداً بعد أن تمّ تجميده خلال الشهور الستة الماضية، حيث واجهت الولايات المتحدة صعوبات في إرساء أرضيّة مشتركة بين الأكراد، بسبب التدخّل التركي المباشر في هذه المفاوضات. وتقابَل مساعي الولايات المتحدة، والتي عادت لتنشط بعد فترة تردّد وضبابية إثر تولّي الرئيس جو بايدن مقاليد الحكم، برفض روسي علني وواضح، باعتبارها، من وجهة نظر موسكو، «انفصالية» ومصدر تهديد لسوريا ووحدتها، وللمنطقة بشكل عام. وعلى الرغم من اعتقاد الدول الفاعلة في الملفّ السوري باقتراب موعد خروج القوات الأميركية من سوريا، ثمّة شكوك حول الآلية التي ستَحكم هذا الانسحاب، والملفّات العالقة التي سيخلّفها، خصوصاً مع الاهتمام الأميركي المتزايد بالملفّ الإيراني عموماً، وبالوجود الإيراني في سوريا على وجه الخصوص، الأمر الذي يفسّر محاولات واشنطن تشكيل حلف سياسي يجمع المعارضة السورية بـ«قسد»، ويمكن استعماله كأداة مستقبلية بعد خروج القوات الأميركية.
عملياً، لم يخرج الوفد الأميركي بأيّ نتائج فعلية من زيارته، كما لم يتمكّن من تحقيق خرق في العلاقات بين «قسد» وفصائل المعارضة، الأمر الذي ظهر بشكل واضح في استمرار القصف المتبادل بين «قسد» والفصائل التابعة لتركيا، وتصاعد نشاط الأكراد العسكري في عفرين. لكن مع ذلك، مثّلت هذه الزيارة بالنسبة إلى «قسد» والتيّار الذي يميل إلى أميركا في المكوّن الكردي، فرصة لزيادة الضغوط على موسكو، والتلويح بمشروع آخر بديل يمكن لـ«الإدارة الذاتية» الانخراط فيه، الأمر الذي يُنتظر أن تردّ موسكو، التي باتت تملك نفوذا كبيراً في الشرق السوري، عليه بحزم.
الأخبار
Views: 1