“الكيان” يتحدّى أمريكا ويهرول إلى الصين طلبًا للحِماية.. هل سيُحقّق له هذا التحوّل الأمن والاستِقرار المُستقبلي الذي يتمنّاه؟ ولماذا نعتقد أن الغرب الذي يُدير له ظهره سيكون سعيدًا بهذه الخطوة؟ ولماذا كان ترامب بهُجومه الشّرس والمُبَرّر على نِتنياهو أوّل من علّق الجرس؟
عبد الباري عطوان
لا نُضيف جديدًا عندما نَصِف مُعظم الإسرائيليين، وحُكوماتهم خاصّةً، بالانتهازيّة، وطعن الحُلفاء في الظّهر بخناجرٍ مسمومة، فمصالحهم تتقدّم دائمًا على ما عداها، وهذا ما يُفسّر نقلهم البندقيّة من الكتف البريطاني، إلى نظيره الأمريكي، بعد تراجع الامبراطوريّة، وغُروب شمسها بشَكلٍ مُتسارع بعد الحرب العالميّة الثانية.
لا تُفاجئنا التّقارير الكثيرة التي تتحدّث هذه الأيّام عن تسارع التمدّد الصيني، والاقتصادي والسياسي في فِلسطين المُحتلّة، والاستِحواذ على مشاريع اقتصاديّة ضخمة آخِرها عقد وقّعته شركة شنغهاي للموانئ بتطوير ميناء حيفا الاستراتيجي ولمُدّة 25 عامًا، كمُقدّمة للتسلّل إلى موانئ أُخرى مِثل أسدود شِمال قطاع غزّة في تَحَدٍّ للولايات المتحدة الأمريكيّة، الدّولة التي تقتطع أكثر من 3.5 مِليار سنويًّا من قُوت شعبها لدعم هذه “الدّولة” المارقة ناكرة الجميل.
القِيادة الإسرائيليّة تعيش حاليًّا حالة من الرّعب غير مسبوقة بسبب تعاظم قوّة محور المُقاومة الصاروخيّة التي غيّرت موازين القوى العسكريّة، وأكّدت تراجع السّلاح الجوّي الأمريكي الأهم، وافتِقاده قُدرة الحسم السّريع للحُروب، ولهذا بدأت تتّجه إلى الصين النّجم الصّاعد عسكريًّا واقتصاديًّا، والخُروج بشَكلٍ مُتدرّج من تحت المظلّة الحمائيّة الأمريكيّة المليئة بالثّقوب.
***
دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السّابق الذي ابتزّ الجميع في استِهزائه بالعرب، الأثرياء والفُقراء منهم على حَدٍّ سواء، وحلب مِئات المِليارات من أرصدتهم وتفنّن بإذلالهم والسّخرية من ضعفهم وغبائهم، كان الأكثر صُراخًا في التّعبير عن خيبة أمله من العُقوق الإسرائيلي عندما هاجم “صديقه” الحميم بنيامين نِتنياهو، واتّهمه بإدارة الظّهر له، حتى قبل أن يتم اعتِماد نتائج الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة رسميًّا، والمُبالغة في مديح خصمه جو بايدن، وهو (ترامب) الذي قدّم لكيانه ما لم يُقدّمه أيّ رئيس أمريكي على مدى 73 عامًا، بِما في ذلك نقل السّفارة الأمريكيّة إلى القدس المُحتلّة، والاعتِراف بضم هضبة الجولان، وقطع المُساعدات عن الشّعب الفِلسطيني، واختِراع صفقة القرن، وسلام أبراهام التّطبيعيّ الملغوم.
دولة الاحتِلال بدأت تُدير ظهرها تدريجيًّا للغرب الذي وقف معها، وخاض جميع حُروبها، ووفّر لها الحماية وأسباب البقاء مُتفوّقة عسكريًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا في منطقة الشرق الأوسط، وتتّجه إلى الصين، بعد أن أحكمت قبضتها على دائرة صُنع القرار في الكرملين الروسي من خلال اللوبي اليهودي القويّ الذي يضم مجموعة من رجال الأعمال الأثرياء، علاوةً على أكثر من مِليون إسرائيلي من أُصولٍ روسيّة تسلّلوا إلى فِلسطين المُحتلّة في فترة انهِيار الإمبراطوريّة السوفييتيّة في مرحلة الثّمانينات، بحثًا عن الأمان ورغَد العيش، أو عن طريق التِفافي للهجرة إلى أمريكا وأوروبا.
إسرائيل إذا استمرّت في المُضي قدمًا في هذه السّياسة “البهلوانيّة” لن تكسب الصين وتُهيمن عليها، وفي الوقت نفسه قد تخسر أمريكا والغرب، ولعلّ تصويت أكثر من 72 بالمئة من اليهود في الانتِخابات الأمريكية الأخيرة لصالح المُرشّح الديمقراطي بايدن، مع ظُهور علامات الضُعف والوهن على مُؤسّسة “الإيباك”، رأس حربه اللوبي الإسرائيلي في أمريكا، وتصاعد هجمات الرئيس ترامب المُرشّح الأكبر لزعامة الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسة المُقبلة، كلّها مُؤشّرات تُؤكّد على ما نقول، وربّما لا نُبالغ إذا قُلنا إن هذا الخِيار الإسرائيلي الجديد قد يهبط بردًا وسلامًا على قُلوب الغرب الذي بدأ يضيق ذرعًا من العبء الإسرائيلي.
عندما بدأت عمليّة طرد اليهود من أوروبا واضّطهادهم وإرسالهم إلى أفران المحارق على أيدي النّازيين، ومن ثمّ توطينهم في فِلسطين بدَعمٍ من حُكومات أوروبيّة، وعلى رأسها بريطانيا تطبيقًا لمشروع وعد بلفور، كانت مُعظم الدّول العربيّة خاضعةً للاستِعمار الغربي، وتحكمها قِيادات وحُكومات عمليّة، والغالبيّة السّاحقة من شُعوبها فقيرة، ومُعدمة، وأمّيّة، الآن تتغيّر الصّورة بشَكلٍ مُتسارع، من النّقيض إلى النّقيض، ونحن لا نتحدّث هُنا عن الحُكومات العربيّة المُنخرطة في المُعسكر الأمريكي الآفل، وإنّما عن محور المُقاومة الذي بات يمتلك أسباب القُوّة والصّمود المدعوم بالرّدع الصّاروخي وثقافة المُقاومة، والأذرع العسكريّة الضّاربة الشّريفة والمُكتفية ذاتيًّا في ميادين التّصنيع الحربي.
الهُروب إلى الصين لن يُنقذ “إسرائيل” من التّهديد الوجودي الذي يُواجهها بسبب تنكّرها لكل اتّفاقات السّلام وقرارات الأمم المتحدة، وتغوّلها في اضّطهاد الشّعب الفِلسطيني، وسرقة أراضيه، وثرواته، وعدواناتها المتكررة على دول الجِوار العربي، فلا يُوجد التزام أخلاقي أو سياسي لدى الصين وشعبها يُلزمها بالدفاع عن هذه الدولة العنصرية، وخوض حرب بالتالي للدّفاع عنها، ورصد المليارات سنويًّا لدعمها، فالصينيّون ليس لديهم عُقدة ذنب تُجاه اليهود مثلما هو حال الأوروبيين والمسيحيين الغربيين، وينطلقون من “قيم” المصالح الاقتصاديّة الصّرفة، والأهم من ذلك أنهم عانوا من ظُلم الاستِعمار الغربي مِثل الفِلسطينيين والشّعوب العربيّة الأُخرى.
الاختبار الحقيقي للدولة العبريّة يتجسّد في معركة “سيف القدس” الأخيرة في أيّار (مايو) الماضي، عندما عزلتها صواريخ المُقاومة المُصنّعة ذاتيًّا، عن العالم لمُدّة 11 يومًا، وجعلت ستّة ملايين من مُستوطنيها يلجأون إلى الملاجئ “الرّطبة” طلبًا للسّلامة، ولم تستطع القبب الحديديّة، ولا أمريكا التي موّلتها، حمايتهم، ولا نعتقد أن الصين ستنجح حيث فشلت أمريكا وقببها، وصواريخ “باتريوتها”، وطائرات شبحها، ولا اتّفاقات سلام إبراهام مع حُلفائها الجُدد.
القيادة الإسرائيليّة تتخبّط، وتذهب في كُل الاتّجاهات باستِثناء الاتّجاه الوحيد الأسلم والآمِن وهو الطّريق الفِلسطيني، ولهذا ستدفع الثمن غاليًا لتنكّرها وغطرستها، وتغوّلها في احتِلاله، وقتله، وحِصاره، وتجويعه، وإذلاله، والمُؤشّرات التي تُؤكّد هذه الحقائق كثيرة.. والأيّام بيننا.
Views: 1