ببطء وبرفق، تتلمس مدينة حلب جروحها بيدها السليمة، تحاول تحديد مواضع نثرات الزجاج الحادة كخناجر صغيرة، تنتزعها بمساعدة ظفري إبهامها وسبابتها، ثم تربط منديلاً حول جروحها، وتسند ظهرها منهكة.
لم يختلف الحلبيون يوماً عن مدينتهم، فبعد عقد من حرب إرهابية عصفت بهم، استفتوا قلوبهم وجعلوا من مسرح الموت مسرحاً للحياة، وبدؤوا بترميم المدينة بدءاً من أحد معالمها التاريخية والحضارية الأبرز، الجامع الأموي.
جامع بني أمية هو أحد أكبر وأقدم المساجد في مدينة حلب، ويقع في حي الجلوم بالقرب من سوق المدينة القديمة وسط حلب التي أدرجت على قائمة مواقع التراث العالمي عام 1986، ليصبح جامعها الكبير جزءاً من التراث العالمي.
“أعمال ترميم المسجد الأموي في حلب شارفت على الانتهاء بعد أن كانت قد انطلقت منذ قرابة ثلاثة أعوام، وقد أنجزت خلال وقت قياسي حسب تضرر الجامع”، كما يؤكد مدير الآثار والمتاحف في حلب، الدكتور صخر العلبي، في حديثه لوكالة “سبوتنيك”.
ويتحدث العلبي عن الأضرار التي لحقت بالجامع، فهناك بعض الأجزاء التي أصابها دمار كامل بنسبة 100%، وهناك أجزاء أقل ضرراً، ما استدعى الفريق المسؤول عن الترميم إلى استغراق وقت طويل في إنجاز العمل، لأن الجامع معلَم ديني وثقافي له خصوصيته الأثرية والحضارية التي لا يمكن تحريفها أو تعديلها.
ويبين العلبي: “بدأنا بالأماكن الأكثر ضرراً، ثم انطلقنا بمرحلة توثيق وتصوير طبوغرافي للأحجار الأثرية، فيما كان الفريق المختص يؤدي أعمال الترميم بعناية فائقة حيث يعمل على استخدام الأحجار الأثرية ذاتها بعد اختبار مدى صلاحيتها وتحملها لسنوات قادمة، وذلك احتاج وقتاً طويلاً في معرفة موضع كل حجرة قبل سقوطها والكيفية التي سترتب وفقها مع الأحجار الأخرى”.
وبحسب العلبي، تم الانتهاء من ترميم الواجهات الحجرية لمداخل الجامع والتي كانت متضررة بفعل الرصاص والشظايا المتطايرة بالإضافة إلى ترميم سطح الجامع، والآن يتم العمل على الجدران والمئذنة.
وتعرض الجامع لأضرار متنوعة كالحرائق والقذائف والرصاص ما استدعى ترميمه بعناية، وهي ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها الجامع الأموي بحلب للتخريب لكن المرة الأخيرة كانت الأشد ضرراً خلال الحرب، في حين جرت آخر عملية ترميم للجامع عام 2006 تزامناً مع تنصيب حلب عاصمةً للثقافة الإسلامية.
“المئذنة حديث ذو شجون” هكذا يوضح العلبي، مشيراً إلى أن الفريق يحاول إعادة بنائها حسب المواصفات المطلوبة لكنها تطلبت مجهودات مضاعفة لا سيما وأنه يتم استخدام الأحجار القديمة ذاتها مع تصنيع بعض الأحجار المماثلة لتعويض النقص في بعض الأحجار، ويستغرق إعادة تأهيل كل صف من صفوف أحجارها 25 يوما ما بين الجدار الداخلي والخارجي والدرج الملتف داخلياً.
وقال العلبي: “نوازن بين الجانب التاريخي والمعماري والحديث في الترميم، حيث أن للجامع قيمة تاريخية كبرى ونحن بحاجة لترميمه ليعود كما كان دليلاً على نبض حلب بالحياة على مر العصور”.
ويطلق الحلبيون على الجامع الأموي اسم الجامع الكبير، وجامع سيدنا زكريا، بناه الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، بين عامي 716 و718 للميلاد، ليضاهي به أموي دمشق الذي بناه شقيقه الوليد بن عبد الملك.
وتم الانتهاء من آخر ترميم لأموي حلب في 17 آذار 2006 مع بدء الاحتفالية بحلب عاصمة للثقافة الإسلامية، قبل أن يقوم مسلحون تابعون لما يسمى (لواء التوحيد) بتدميره أجزاء واسعة منه خلال سلسلة من الهجمات المتتالية للسيطرة عليه بدءا من مطلع عام 2012.
وتظهر مقاطع الفيديو التي سجلها مسلحو (لواء التوحيد) بأجهزتهم الخليوية في شهر أيار عام 2013، قيامهم بتفكيك منبر الجامع ونقله إلى تركيا، وذلك بعد قيامهم بتفجير مئذنة الجامع وفقا لمقاطع فيديو صوروها أيضا بشكل ذاتي.
وصنع المنبر في القرن الثالث عشر على نسختين توأمين، أرسلت الثانية إلى المسجد الأقصى بالقدس إبان دخول صلاح الدين الأيوبي إليها، لتسجل سرقته وتهجيره كواحدة من أكثر المشاهد التي آذت مشاعر حلب وسكانها، نظار لما تمثله من قيمة دينية وأثرية لهم.
ولأن هناك لحظات لا خيار فيها سوى المضي قدماً، توجب على الحلبيين أن يتابعوا طريقهم إلى الأمام، كما توجب على نوافذ الجامع الأموي أن تزينها الرياحين من جديد فيما يحط على قبته ومئذنته، الحمام.
سبوتنيك
Views: 3