هل قتلت أمريكا خليفة البغدادي فِعلًا؟ وهل سيُؤثّر هذا الاغتِيال على “عودة” “داعش”؟ ولماذا المُبالغة في هذا العمل “البُطولي” الآن؟ وما هي الأهداف الحقيقيّة وراء ذلك؟
عبد الباري عطوان
عمليّة الإنزال العسكري الذي أقدمت عليه القوّات الأمريكيّة في بلدة “أطمة” شمال مدينة إدلب، وقال متحدّث باسم وزارة الدفاع الأمريكيّة “البنتاغون” إنها نجحت في اغتِيال أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، خليفة أبو بكر البغدادي في زعامة تنظيم “الدولة الإسلاميّة” (داعش)، تُثير العديد من علامات الاستِفهام بسبب غُموضها أوّلًا، والشّكوك التي تُحيط بنتائجها ثانيًا، والأهداف الحقيقيّة وراء تنفيذها في هذا التّوقيت ثالثًا.
باختصارٍ شديد، وقبل الخوض في التّفاصيل، وتحليل المشهد، يُمكن القول إنّ عمليّة الاغتِيال هذه جاءت لتُقدّم الذّرائع لبقاء القوّات الأمريكيّة في شِمال وشَرق سورية، لإحكام السّيطرة على مناطق شرق الفُرات الخصبة والغنيّة بالنفط والغاز والمعادن الأُخرى، وتعزيز قُدرات نظام الحُكم الذّاتي الكُردي الانفصالي المُسيطر على تلك المناطق ويتّخذ من مدينة الحسكة عاصمة له، خاصَّةً بعد أن بدأت قوّاته تتضعضع لأسبابٍ عديدة، أبرزها عودة “داعش” بقوّة، وبدء المُقاومة الشعبيّة العربيّة السوريّة والعِراقيّة لمُكافحة الاحتِلال الأمريكي.
هُناك عدّة نقاط جوهريّة، علاوةً على العديد من الأسئلة التي يُمكن طرحها حول ظُروف هذه العمليّة الأمريكيّة شِمال إدلب ومُلابساتها:
-
أوّلًا: لا يُوجد أيّ دليل مادي ملموس يؤكّد أن القوّات الأمريكيّة اغتالت زعيم تنظيم “داعش” الجديد القرشي، فلا تُوجد له أيّ صُورة شخصيّة، ولم يظهر علانيّة مُنذ أن تولّى قيادة التنظيم في تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2019.
-
ثانيا: البيان الأخير الذي صدر عن وزارة الدفاع الأمريكيّة (البنتاغون) قال إن “القرشي” فجّر نفسه بقُنبلةٍ كبيرة حوّلته إلى أشلاء انتشرت داخِل المبنى وخارجه، ومعه أشلاء 13 آخرين، بينهم أربع نساء وأربعة أطفال.
-
ثالثًا: هذا البيان يُريد تنصّل أمريكا من مسؤوليّة القتل له وللأطفال والنساء، وعدم تقديم أيّ أدلّة على أن القرشي كان من بين الضّحايا، الأمر الذي يُذكّرنا بسيناريو مقتل سلفه البغدادي، وقبلهما أسامة بن لادن، زعيم تنظيم “القاعدة” ومُؤسّسها، فحتى هذه اللّحظة لم نر صُورةً واحدةً تُوَثِّق مقتلهما.
-
رابعًا: توقيت تنفيذ هذه العمليّة الهُجوميّة “الغامضة” تأتي بعد أيّام معدودة مع رواية هُجوم تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) على سجن الحسكة التي استمرّت أكثر من عشرة أيّام، وأظهرت ضعف وهزالة قوّات سورية الديمقراطيّة “قسد” وفشلها في تأمين حِراسة كَفُؤة لهذا السّجن في “عاصمتها”، والذي يضم أخطر عناصر التنظيم المُهاجِم (أيّ داعش)، وربّما الهدف هو رفع معنويّات هذه القوّات التي أنفقت أمريكا مِئات الملايين من الدّولارات على تدريبها وتسليحها، من خلال الادّعاء باغتِيال زعيم التنظيم المُهاجِم.
-
خامسًا: بغضّ النظر عن مدى دقّة المعلومات الواردة في البيانات الأمريكيّة حول هذه العمليّة، وتفاصيلها، وضحاياها، لأنّها قادمة في مُعظمها من طرفٍ واحد فقط، أيّ الأمريكي، فإنّ الحقيقة التي تطل برأسها هي العودة القويّة لتنظيم (داعش) واستِئنافه لنشاطه في العِراق وشمال سورية وشرقها، والحُدود السوريّة العِراقيّة، و”صحوة” خلاياه النّائمة طِوال السّنوات الثّلاث الماضية، وعودتها للحِراك مجددًا، وبشَكلٍ قاتل.
عمليّة الهُجوم الشّرس على سجن الحسكة التي استمرّت 10 أيّام، ويُقال إنها مُستمرّة حتّى الآن حيث تُسيطر “داعش” على جُزءٍ منه، وأدّت إلى مقتل 500 شخص من الجانبين، اختارها التنظيم كمحطّة إشهار لعودته إلى السّاحة تمامًا مثلما استخدم أبو بكر البغدادي الجامع النوري الكبير في الموصل للإعلان عن قيام الدولة الإسلاميّة بزعامته، وربّما بصُورةٍ أكبر وأقوى من الأُولى، فالتنظيم صعّد هجماته في الأشهر الأخيرة ضدّ سورية وجيشها العربي، وتم اغتِيال العديد من الوجهاء المحليين (200 من شُيوخ وقادة العشائر)، وخطف أعداد كبيرة، منهم وابتزّ الشّركات ورجال المال والأعمال للحُصول على “خوّات” ماليّة مُقابل الإفراج عنهم، لتمويل عمليّاته ومُقاتليه، وقتل العديد من الجُنود العِراقيين أيضًا بالطّريقة الوحشيّة نفسها التي يتبنّاها.
عمليّة اغتِيال أبو إبراهيم الهاشمي القرشي التي تتباهى أمريكا ورئيسها جو بايدن بتنفيذها، إذا صحّت، لن تُحقّق التّأثير المطلوب على تنظيم “داعش” بل ربّما تُعطي نتائج عكسيّة تمامًا من حيث كشفها لعودة التنظيم بقوّة، وأيًّا كانت الجهة التي تقف خلفه (هُناك نظريّة تؤكّد أنها أمريكا) وتشتّت خُصومه بل تُقاتلهم، لأنّه لم ينهار حسب الرواية الأمريكيّة التي سادت بعد مقتل أبو بكر البغدادي، وربّما يكون خسر دولته جُغرافيًّا، لكنّه لم يخسر طُموحاته عقيدته الإرهابيّة المُتوحّشة، لسببٍ بسيط لأنّ الأخطاء والمُمارسات التي أدّت إلى صُعوده، وعلى رأسها الاحتِلال والوجود الأمريكي لأراضي عربيّة ما زالا قائمين، كما أن الحاضنة له، وسِياسات التّهميش ما زالت مُستمرّة بل ازدادت شراسةً وسُوءًا، وفوقها الجُوع والبِطالة والإذلال لسُكّان تلك المناطق وغيرها، والغياب الكامل للحُكم الرّشيد في المِنطقة عُمومًا.
مسرحيّات أمريكيّة تتواصل فُصولها، وتَجِد من يُصدقّها بل ويُؤيّدها للأسف، ولكنّ القوّات والقواعد الأمريكيّة، في سورية والعِراق والمنطقة عُمومًا، لن تُعمّر طويلًا، ومصيرها الانسِحاب المُهين والمُذل، على غِرار ما حدث في أفغانستان قبل أشهر، وفي العِراق نهاية عام 2013.. واللُه أعلم
Views: 5