03:03 AM 2022-02-24
مع محافظة خرائط السيطرة الميدانية على وضعها المتشكّل بفعل عدة عوامل داخلية وخارجية، بات الاقتصاد السوري موزعاً على 4 أجزاء، تبعاً للقوى المسيطرة على الأرض والحدود المؤقتة التي رسمتها المعارك الأخيرة للجيش السوري وحلفائه.
هذا الواقع ليس جديداً، إذ إن سنوات الحرب الاثنتي عشرة حملت معها، ولا سيما في المناطق التي خرجت عن سيطرة الحكومة، أشكالاً مختلفة من الهياكل والبنى والعلاقات الاقتصادية المشوهة وغير الشرعية، منها ما انتهى مع استعادة الحكومة سيطرتها على مساحات واسعة من البلاد في العامين 2017 و2018، ومنها ما بقي وتطور أكثر مع تبلور أهداف التدخلات الأجنبية المباشرة في الأزمة السورية، كما هو الحال في شمال البلاد وشرقها.
ويمكننا في هذا السياق الإشارة إلى 4 اقتصاديات تعمل على الأرض السورية:
– الاقتصاد الأكبر المتمثل باقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، والذي يحظى بالشرعية المؤسساتية والدولية: رغم ما يعانيه هذا الاقتصاد من مشاكل بنيوية وصعوبات تمويلية وتشغيلية متعددة الأسباب والعوامل، فإنه يبقى، في نظر السوريين، قادراً وحده على إعادة ربط أوصال البلاد المبعثرة اقتصادياً، بالنظر إلى شرعيته المنبثقة من شرعية الحكومة، والتوزع الجغرافي الواسع لمؤسساته، والإمكانيات البشرية والفنية الكبيرة التي لا يزال يمتلكها حتى الآن، وتنوع موارده وثرواته، والانفتاح العربي والدولي المرتقب عليه خلال الفترة القادمة.
– اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا “قسد” الكردية المدعومة أميركياً: تكمن ميزته نظرياً في حجم ما تحتويه مناطقه من ثروات استراتيجية، كالنفط، ومحاصيل زراعية رئيسية، أي يفترض أنه يملك مصدراً مستداماً نوعاً ما من الإيرادات، فضلاً عن محاولته بناء هيكل مؤسّساتي تحت مظلة ما يسمى بالإدارة الذاتية. وهنا تكمن خطورة الأهداف السياسية التي يسعى هذا الاقتصاد إلى تحقيقها، وخصوصاً أنَّ العديد من المناطق التي يشملها تعاني تهميشاً تنموياً وإهمالاً خدمياً، تتجلى ملامحه بوضوح في الوضع المعيشي للسكان.
ونحو مزيد من توضيح ماهية النشاط الاقتصادي السائد منذ سنوات ما قبل الحرب في المحافظات الشرقية، نستعرض البيانات الخاصة بتقديرات الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة بحسب المحافظات والقطاعات في العام 2010، والتي تظهر تصدّر محافظتي الحسكة ودير الزور قائمة المحافظات في مساهمتهما في قطاعين أساسيين هما:
التعدين واستغلال المحاجر: تتصدَّر الحسكة المحافظات السّوريّة بمساهمتها في إجمالي الناتج المحليّ للقطاع على مستوى البلاد، وذلك بنسبة قدرها 32.83%. أمّا دير الزور، فتأتي في المرتبة الثالثة بعد كلّ من الحسكة وحمص، بنسبة مساهمة قدرها 13.23%. أما الرقة، التي لا تزال الاكتشافات البترولية فيها محدودة، فإن نسبتها لم تتجاوز 2.32%، لتحتلّ بذلك المرتبة العاشرة بين المحافظات.
الزراعة والغابات والصيد: بلغت نسبة مساهمة الحسكة من الناتج المحلي للقطاع المذكور على مستوى سوريا حوالى 10.52%، ودير الزور 10.50%، والرقة 9.57%، ليكون ترتيبها بذلك بين المحافظات الثالثة والرابعة والخامسة على التوالي بعد كلٍّ من حماه وحلب.
– اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة مجموعات مسلّحة مدعومة إقليمياً وغربياً في مدينة إدلب وأجزاء من ريفها: يغلب النّشاط الزراعي والتجاري على بنية هذا الاقتصاد، بالنظر إلى أن الزراعة، وعبر عقود من الزمن، شكلت النشاط الاقتصادي الأساسي للسكّان في المحافظة الشمالية، والتي تسبّب موقعها الحدودي مع تركيا وتدخّل الأخيرة في مجريات الأزمة السورية، في تحولها إلى مجرد سوق استهلاكية واسعة، سواء لتصريف المنتجات التركية، أو تلك المهربة عبر الأراضي التركية، أو لبيع النفط السوري المنهوب والمكرّر بمصافٍ بدائية.
وتشير التّقديرات الإحصائيّة المستقلّة إلى أنَّ الناتج المحلي الإجمالي لمحافظة إدلب سجَّل في العام 2010 نحو 81.449 مليار ليرة (بالأسعار الثابتة)، أي ما نسبته 5.5% من إجمال الناتج المحلي لسوريا، والبالغ آنذاك نحو 1.469 تريليون ليرة سورية، لتحتلّ بذلك إدلب المرتبة التاسعة بين المحافظات في قيمة الناتج المحلي.
وفي تركيبة مساهمة القطاعات الاقتصادية، يأتي قطاع الزراعة والغابات والصيد أولاً، بنحو 19.765 مليار ليرة، ثم التجارة، بنحو 19.055 مليار ليرة، فالنقل والتخزين والاتصالات، بنحو 12.493 مليار ليرة.
– اقتصاد المناطق التي تحتلها تركيا في الشمال والشرق: تتولى تأسيسه وإدارته بشكل مباشر الحكومة التركية، وهو جزء من سياسة التتريك التي تنفذها حكومة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في المناطق التي تحتلها عسكرياً.
وتظهر الأخبار الواردة من تلك المناطق أنَّ استحداث مدارس ومراكز صحية وغيرها من المرافق الخدمية لم يقابله مشروعات استثمارية ملحوظة في قطاعات إنتاجية كالزراعة والصناعة، بل إنَّ القوات التركية عمدت إلى اقتلاع آلاف أشجار الزيتون، وتجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ونهب وسرقة بعض الثروات، وغير ذلك، وهو ما يعني أنَّ فكرة بناء “اقتصاد ذاتيّ” في تلك المناطق غير واردة في الاستراتيجيّة التركيّة لأسباب عدة.
ما مصيرها؟
تأمل جهات عدّة، داخلية وخارجية، أن تنجح هذه الاقتصاديات الثلاثة المتشكّلة خارج رحم الاقتصاد السوري بالاستمرارية والتحوّل مع مرور الوقت إلى أمر واقع، كما هو الحال في شمال العراق أو في القسم القبرصي الذي تحتله تركيا؛ ففي ذلك إضعاف طويل الأمد للاقتصاد السوري عبر حرمانه من ثرواته وموارده الطبيعية، وإغراقه بالسلع المهربة، وعرقلة استثماره لموقع البلاد الجغرافي في تعزيز حضوره، وتأثيره في خريطة تجارة الترانزيت الإقليميّة والدوليّة، الأمر الَّذي يعني في النهاية إضعاف الحكومة السورية سياسياً وميدانياً، ولكنَّ معظم المؤشرات والمعطيات الجيوسياسية والاقتصادية يؤكد أن مستقبل هذه الاقتصاديات محكوم عليه مسبقاً بـ”الإعدام” أو بالموت لأسباب كثيرة، يمكن تحليلها وشرحها من خلال استعراض النقاط التالية:
– هذه الاقتصاديات الثلاثة موجودة في بيئة سياسية وميدانية غير مستقرة، الأمر الذي يجعلها عرضة لتقلبات وهزات متوقعة في أي وقت، إذ إن دمشق مصمّمة على استعادة جميع المناطق الخارجة عن سيطرتها، سواء كان ذلك عبر الحلول السياسية والتفاوض، كما يجري منذ سنوات مع “قسد” بوساطة روسيا، وربما مستقبلاً مع تركيا، أو عبر الحلول العسكرية المدعومة سياسياً، كما هو متوقع في إدلب.
والحديث عن بيئة سياسية غير مستقرّة يعني غياب الاستثمارات المحلية والخارجية المؤثرة، وندرة المشروعات الإنتاجية الكبيرة، والأهم عدم القدرة على بناء وتأسيس علاقات اقتصادية فعالة وسليمة مع البيئة المحيطة. مثلاً، اقتصاد المنطقة الشرقية معزول تماماً بحكم مخاوف المحيط من النزعات الانفصالية لشريحة من الكرد، فلا يمكنه مثلاً فتح قناة رسمية للتبادل التجاري مع تركيا، وعلاقته مع الاقتصاد السوري محسوم أمرها لدى دمشق، وحتى الدعم الأميركي بات سقفه معروفاً ومحدداً. إذاً، هو اقتصاد “مخنوق” ومصيره الموت عاجلاً أو أجلاً، أياً كان حجم الثروات التي يملكها.
– جوهر عمل هذه الاقتصاديات يقوم في النهاية على تسخير جميع طاقات مناطقها وإمكانياتها الاقتصادية لخدمة المجهود العسكري للمجموعات المسلحة المسيطرة. وفي مثل هذه الحالة، من الطبيعي أن يكون ذلك على حساب المشروعات الاستثمارية الإنتاجية والخدماتية لتحسين معيشة السكان.
وتأكيداً على ذلك، فإنَّ التقديرات الإحصائية المستقلة تشير مثلاً إلى أنَّ عائدات القوى والمجموعات المسلَّحة من سرقتها النفط السوري وصلت مع نهاية العام 2019 إلى أكثر من 3 مليارات دولار. من جانب آخر، يكشف المركز السوري لبحوث السياسات في تقريره الصادر في العام 2020 أنَّ “القوى المسيطرة في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحكومة نفَّذت بعض المشاريع الاستثمارية التي تهدف إلى المحافظة على بعض الخدمات الأساسية.
وقد انكمش هذا الاستثمار “شبه العام” بنسبة 13% في العام 2018، وبنسبة 35% في العام 2019. وبما أنَّ الاستثمار لا يحظى بالأولوية ضمن البيئات غير المستقرة وغير الآمنة، فإن هذه المناطق أصبحت تعاني من حرمان أكبر من الاستثمار شبه العام وتوفّر الخدمات.
– افتقاد الاقتصاديات الناشئة بفعل الحرب المقومات التي تؤهلها للاستمرارية وبناء الذات. ربما لهذا السبب يتعامل معها الجميع، من حكومات ودول ومنظمات، بوصفها اقتصاديات طارئة ومعرّضة للزوال أو أنَّ مصيرها هو العودة إلى الانصهار في بوتقة الاقتصاد الحكومي، إذا صحَّت التسمية.
وإذا كانت المناطق الشرقية الخاضعة لسيطرة “قسد” تحتضن أهم ثروة نفطية وزراعية، إلا أنها تفتقد القدرات والإمكانيات المؤسساتية والبشرية والفنية والمالية اللازمة لإدارة هذه الثروة واستثمارها. ولو حاولت “قسد” توفير ذلك، فإنَّ البيئة غير المستقرّة التي توجد فيها والرافضة لها تقف حائلاً أمامها، في حين أنَّ الاقتصاد القائم في مناطق إدلب التي تخضع لسيطرة مجموعات مسلّحة، يُصنّف جزءٌ منها أممياً في لائحة المنظمات الإرهابية. وباستثناء المساحات الزراعية التي تراجعت أيضاً، فلا يملك أيّ ثروات أو قدرات تؤهّله ليكون أكثر فاعلية، فحتى المعامل الحكوميّة الكبرى التي كانت موجودة في المحافظة، جرى تفكيكها وتهريبها إلى الأراضي التركية وتخريب وتدمير ما تبقّى من منشآت ومؤسّسات اقتصادية وخدمية. كما أنّ المعابر الحدودية تحولت إلى منفذ باتجاه واحد، هدفه عبور البضائع والسلع التركية إلى الأسواق السورية بشكل غير نظاميّ.
رغم ذلك، هذه الاقتصاديات تتأثر وتؤثر ببعضها البعض بأشكال وطرق مختلفة، وهي في وضعها الحالي تمثل أحد أهم الأسباب المباشرة للأزمة الاقتصادية التي تشهدها جميع المحافظات والمناطق السورية. وتالياً، إن استعادة الحكومة السيطرة على ما تبقى من أراضي البلاد ستؤدي حتماً إلى حدوث تغييرات جذرية في تركيبة تلك الاقتصاديات وأنشطتها وبناها الهيكلية والتنظيمية والإجراءات الناظمة لعملها، بل إن الاقتصاد الحكومي سيتأثر هو الآخر، سواء باستعادة زخمه الاستثماري والإنتاجي أو من خلال التغييرات التي سوف يشهدها، بغية التأقلم مع الوضع الجديد الذي لم يعد ينفع التعامل معه وفق السياسات والأطر السابقة.
الميادين
Views: 5