ربة الصاروخية الإيرانية التي استهدفت مراكز إسرائيلية وأميركية في كردستان العراقية، تُعدُّ جزءاً من كلّ. فالحرب التي تدور رحاها بطرق وأساليب متعدّدة بين المحاور التابعة لأميركا، وبين محور المقاومة، لا تتوقّف، وهي تواصل ترقّيها بانتظام، وإن كان لا يراد منها، في هذه المرحلة، أن تصل إلى حدّ المواجهة الشاملة، على رغم أن أسباب هذه الأخيرة قائمة باستمرار، خاصة أن الجولة الحالية تتميّز عن غيرها بكثرة الإخفاقات في التقدير، والخطأ في الحسابات، وكذلك الفشل العملياتي، الأمر الذي يؤدّي، بين الحين والآخر، إلى تصعيد، لا يمكن، على رغم ما تَقدّم، القطع في نتائجه النهائية. وبخصوص ضربة أربيل تحديداً، فإن اعتبارها ردّاً على الاعتداء الإسرائيلي الأخير على سوريا، والذي أدّى إلى مقتل مستشارَين إيرانيَّين، لا يتساوق تماماً مع واقع الأمور، وإن كان، وفق التقديرات، جزءاً من أهدافها.
وعلى رغم أن التقارير الواردة من العراق متضاربة، إلّا أن الأكثر ترجيحاً أن الهجوم الإيراني الذي انطلق على ما يبدو من منطقة تبريز في شمال غرب إيران، استهدف قاعدة “حرير” في أربيل، والتي لا خلاف في العراق على أنها تتضمّن، في داخلها وفي محيطها المباشر، منشآت مشتركة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية و”الموساد” الإسرائيلي، إضافة إلى بنية تحتية استخبارية خاصة بالتتبّع والمراقبة الاستخبارية، المخصّصة لمواجهة إيران وإدارة المعركة ضدّها. وما بين إيران وإسرائيل، برعاية أميركية للأخيرة، أكثر من ضربة واعتداء، بما يشمل الساحة السورية، وساحات المواجهة على اختلاف مواقعها الجغرافية، القريبة أو البعيدة عن الجمهورية الإسلامية. ولعلّ ما سلف يفسّر الإشارات الواردة في الإعلام العبري إلى أن طهران ردّت عبر استهداف أربيل، على اعتداء إسرائيلي ليس بالضرورة أن يكون الضربة الجوّية الأحدث التي استهدفت سوريا. وإلى أن تتّضح وجهة العملية الإيرانية وأسبابها المباشرة وأهدافها، يمكن الإشارة إلى الآتي:
أولاً: يتعذّر على إسرائيل أن تقرّ بأن الاستهداف الصاروخي كان لأهداف تابعة لـ”الموساد” في كردستان، إذ إن إقراراً كهذا لا يتساوق مع استراتيجيات العمل الصامت لدى الأكراد، لأسباب ترتبط بالجانب الكردي الذي يريد علاقة مع إسرائيل لا تثير الداخل العراقي أو الإيراني ضدّه، فيما أسباب تل أبيب قائمة ومؤثّرة وتمنع عنها إشهار تلك العلاقة، كون ذلك يؤثر على وجودها في الإقليم، ويمنع عنها الاستفادة الاستخبارية والتشغيلية العملياتية الأمنية في مواجهة إيران، سواءً في الداخل العراقي نفسه، أو امتداداً إلى الداخل الإيراني انطلاقاً من العراق، والشكل الأخير هو ما يقال إنه السبب الرئيس للضربة الصاروخية على أربيل.
ثانياً: على خلفية المطلب الأوّل، يمكن تفسير “الاستماتة” الإسرائيلية التي ميّزت المقاربة الإعلامية العبرية، من تقارير وتعليقات، للتأكيد أن ما استهدفته الضربة الصاروخية الإيرانية، إنّما هو أهداف أميركية، وتحديداً مبانيَ ومنشآت تابعة للقنصلية الأميركية، في مقابل إصرار واشنطن اللافت، على أن أيّاً من أصولها، الدبلوماسية والعسكرية (الاستشارية)، لم يُستهدَف. الموقفان، الإسرائيلي والأميركي، يشيران إلى هدفَين اثنين، متباينَين: إرادة أميركية في تجنّب “الإحراج” الذي يفضي إلى ضرورة الردّ على الجانب الإيراني، في مقابل إرادة إسرائيلية في حصْر الاستهداف بالأميركيين، لدفعهم إلى الردّ. أمّا في ما يتعلّق بمحطّة “الموساد” في أربيل، وهي التي استُهدفت بالفعل، فهناك نوع من التعمية عليها في معرض السرد الإعلامي، وإن بصورة غير مباشرة، كون الحديث عنها يستتبع إقراراً غير مباشر بما يُنسب إلى إسرائيل من اعتداء، انطلق من أربيل في الآونة الأخيرة.
واضح لإسرائيل، كما للولايات المتحدة، وجود توجّه إيراني لفرض معادلات تمنع تل أبيب وواشنطن من شنّ اعتداءات
ثالثاً: واضح لإسرائيل، كما للولايات المتحدة، وجود توجّه إيراني لفرض معادلات تمنع تل أبيب وواشنطن من شنّ اعتداءات، أو تدفعهما إلى التفكير مليّاً قبل شنّها، سواء كانت هذه المعادلات مرتبطة بساحة دون أخرى، كما هو حال الردّ في العراق على اعتداء انطلق من العراق نفسه، أو بمجموع الساحات بوصفها مسرح عمليات للحرب الأوسع والأشمل بين المحورين. في الحالة الأخيرة، أي الساحة الكبرى، يمكن لإيران مواجهة بنك أهداف، والجمع بين أهداف إسرائيلية وأخرى أميركية، ومن ثمّ قلْب المعادلة التي تحاول تل أبيب إرساءها في الآونة الأخيرة: استهداف رأس الأخطبوط، في إشارة إلى إيران نفسها؛ إذ تستطيع طهران بذلك استهداف رأس الأخطبوط في المحور المعادي لها – من دون الاقتصار على الدولة العبرية -، أي المصالح الأميركية، على خلفية أن أيّ اعتداء إسرائيلي، كبيراً كان أم صغيراً، لا يمرّ من دون رضى أميركي.
رابعاً: يكاد يستقرّ الرأي والتقدير في تل أبيب على أن واشنطن “ستبتلع” الضربة الصاروخية، سواءً استهدفتها هي مباشرة أو بصورة غير مباشرة، كما حصل في أربيل، وهي لن تبادر إلى أيّ ردٍّ كبر أو صغر، على خلفية انشغالها المكثّف في شرق أوروبا، الملفّ الذي يستهلك منها معظم اهتمامها؛ ناهيك عن أنها معنيّة، كذلك، بعدم إزعاج الإيرانيين في مرحلة حسّاسة جداً من المفاوضات في فيينا للوصول إلى اتفاق نووي جديد، هو في الأساس عرضة لعراقيل غير سهلة فرضها الجانب الروسي على طاولة المفاوضات.
خامساً: تتبنّى إسرائيل، وفقاً لما يتسرّب عن المؤسسة الأمنية، التقدير بأن هجوم أربيل ليس بالضرورة نهاية الردّ الإيراني على سقوط قتيلَين من الحرس الثوري في سوريا، بل ليس هو الردّ على هذا الاعتداء، إذ يمكن أن يكون ردّاً على اعتداء آخر، لم يَظهر إلى العلن حتى الآن. وعلى ذلك، تُبقي إسرائيل على جهوزيتها الأمنية والاستخبارية كما هي، لاحتمال تلقّي ضربة أو ضربات. ووفقاً لمراسلي الشأن العسكري في الإعلام العبري: “لا يستبعدون في إسرائيل ردّاً إيرانياً آخر، الأمر الذي يستتبع إبقاء قرار الاستنفار على حالة التأهب القصوى خشية تلقّي هجوم من الحدود الشمالية، على شاكلة إطلاق صواريخ أو طائرات مسيّرة انتحارية، وغيرها من الخيارات الموجودة لدى الإيرانيين، انطلاقاً من سوريا، أو من خارجها”.
في حديث إلى وكالتَي “رويترز” و”أسيوشيتد برس” للأنباء، قال مصدر في وزارة الدفاع الأميركية إن الصواريخ التي استهدفت أربيل إيرانية، وانطلقت من الجمهورية الإسلامية، مندّداً بالاستهداف الذي وصفه بـ”عدوان ينتهك السيادة العراقية ويتسبّب بتصعيد”، ولافتاً إلى أن الحكومة العراقية وسلطات كردستان فتحتا تحقيقاً في الحادث، لمعرفة ملابساته بدقة. وفي بيان متطابق، وصفت وزارة الخارجية الأميركية، انطلاقاً أيضاً من سرديّة الحرص على “السيادة العراقية”، ما جرى بأنه “هجوم فاضح، وإن لم تقع فيه إصابات أميركية، ولم يُلحِق أيّ ضرر بالمنشآت الأميركية في المدينة”. من جهته، أكد وزير الصحة في كردستان، سامان برزنجي، أن التفجيرات التي هزّت الإقليم، أول من أمس، لم توقِع ضحايا أو إصابات، فيما “لا تُعرف الجهة المستهدَفة بالهجمات بعد”، ليطابق ذلك ما قاله محافظ أربيل، أوميد خوشناو، من أنه “من غير المعروف الجهة التي جرى استهدافها”.
إسرائيل لا تقرّ ولا تنفي
لم تَرِد، أمس، تعليقات رسمية من تل أبيب، على الهجوم الصاروخي الذي استهدف منشأة استخبارية في مدينة أربيل في شمال العراق، أكدت البيانات الإيرانية والتسريبات من العراق، أنها تابعة لـ”الموساد” الإسرائيلي.
مع هذا، تكفّل المراسلون والمعلّقون الإسرائيليون، على اختلاف اختصاصاتهم، بنقل الموقف الإسرائيلي عبر تسريبات منسوبة للمؤسسة الأمنية، اتخذت أشكال ومضامين متعدّدة، وإنْ قصدت الإبقاء على “ضبابية” ما، عبر رفض التعليق على هوية وتابعية المنشأة المستهدَفة. علماً أن البيانات الإيرانية، خلت من ذكر الأميركيين والوجود الأميركي في العراق، وفي المقدمة الامتناع عن ذكر القنصلية الأميركية في أربيل، التي قيل، ابتداءً، إنها المستهدَفة بالصواريخ الإيرانية.
وفقاً للإعلام العبري، لم تكن الضربة الصاروخية الإيرانية مفاجئة، بل كانت متوقّعة لدى كل من إسرائيل والولايات المتحدة، من دون الإشارة إلى منبع هذا التوقُّع أو مصدره، إن كان مرتبطاً بمعلومات استخبارية، أو نتيجة صفة المنشأة وهويتها. وأشارت التعليقات الإسرائيلية إلى أن الهجوم الصاروخي الإيراني “لا يعني أن الحساب قد أُغلق”، في ما يخصّ مقتل ضابطَين من الحرس الثوري في سوريا. فبحسب تقارير عبرية، لدى إيران أيضاً حسابات ردّ على أعمال إسرائيلية أخرى، ما يعني أن على تل أبيب أن تُبقي على جاهزيتها واستعداداتها لتلقي رد إيراني “على ما نسب لها في سوريا”، من دون أيّ تراجع في الإجراءات الدفاعية لصدّ هجمات، “إذ إن إسرائيل تستعدّ لمواجهة سيناريوات إطلاق صواريخ أو إدخال مسيّرات إيرانية، من سوريا ومن ساحات أخرى، في المنطقة”. وذكر موقع صحيفة “إسرائيل اليوم” أن المؤسسة الأمنية في إسرائيل تستعدّ لمواجهة سيناريوات ردّ متنوعة قد يقدم عليها الإيرانيون على خلفية قتل الضابطَين الإيرانيين، والتي يمكن أن تشمل هجمات صاروخية و/ أو هجوم على طول الحدود مع سوريا، وكذلك هجمات بطائرات إيرانية مسيّرة.
وكان لافتاً، أمس، حديث المراسلين العسكريين في تل أبيب، عن “أنهم في إسرائيل لا يقرّون ولا يعلّقون، على هوية المنشأة التي هاجمها الإيرانيون في أربيل، وإن كانت تابعة للموساد”.
Views: 5