- روسيا في عمليتها العسكرية الخاصة التي أطلقتها في أوكرانيا بهدف الدفاع عن الأمن القومي الروسي وأمن الأشخاص الروس في إقليم الدونباس غر الحدود مع أوكرانيا، على إظهار تحركها منجزاً في إطار أحكام القانون الدولي العام، حيث إنها لم تبدأ عمليتها إلا بعد أن اعترفت باستقلال الجمهوريتين المنفصلتين عن أوكرانيا ثم توقيع معاهدة تعاون ودفاع مشترك معهما ثم قيام الجمهوريتين بطلب تقديم الدعم العسكري للدفاع عنهما. ثم انها ودعماً لحقها في تنفيذ العملية أظهرت الكثير من الوثائق والحجج التي تثبت أنّ أوكرانيا كانت تعدّ لعدوان على روسيا بأسلحة تقليدية وغير تقليدية، وبالتالي فإنّ العملية برمتها يمكن تصنيفها تحت عنوان «الحرب الاستباقية»، وانها عمل من أعمال الدفاع المشروع عن النفس ضدّ خطر تخطى الاحتمال ووصل الى درجة التحقق الفعلي.
وفي هذا التحليل تقدّم روسيا عمليتها او تبرّر أعمالها العسكرية بأمرين الأول استجابة قانونية لطلب دولة حليف متعاقد منعها عسكرياً والثاني دفاع مشروع عن النفس ضدّ خطر تأكد قرب وقوعه، وبالتالي تسقط روسيا من التداول فرضية العدوان التي تتمسك بها مجموعة الغرب الأطلسي وتؤمّن لنفسها الغطاء القانوني الذي يوفره لها التفسير المتقدّم لأحكام القانون الدولي العام وبشكل أدقّ لأحكام الحقّ بالدفاع المشروع عن النفس وإغاثة الحليف المهدّد المعتدى عليه العاجز عن دفع العدوان عنه، ولا تكترث لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يرى غير ذلك وبأكثرية ١٤١ صوتاً، بل تقدّم تفسيراً جديداً لمدى حقّ الدفاع عن النفس تفسيراً سيكون محلّ نقاش من قبل خبراء القانون.
واستنادا لما تقدّم خططت روسيا لعمليتها العسكرية الخاصة وحدّدت أهدافها بأنها دفاعية محضة وانها لا ترمي فيها لاحتلال او اقتطاع أرض بل ترمي الى منع أوكرانيا من تشكيل تهديد جدي مستقبلي للأمن القومي الروسي ولأمن السكان من أصل روسي في الدونباس، أمن يتحقق بشكل عملي وميداني وواقعي لا يكتفي بالمعاهدات والالتزامات القانونية بل يتخطاها الى الحالة والسلوك العملي والسبب في ذلك عائد الى انّ أوكرانيا التي كانت قد التزمت في اتفاقيتي مينسك ١ و٢ بما يؤمّن طلبات روسيا حول الأمن نكثت بالتعهّدات تلك واندفعت في تقديم نفسها مسرحاً لأميركا وللحلف الأطلسي يقيم فيها المختبرات البيولوجية ويتحضر للعبث بالأمن القومي الروسي، ورأت انّ هذه الأهداف لا تتحقق بشكل أساسي إلا بإعلان حياد أوكرانيا ونزع سلاحها وتأكيد استقلال جمهوريتي الدونباس فضلاً عن الاعتراف بنهائية عودة شبه جزيرة القرم الى الدولة الأم روسيا كما سبق وأعلن في العام ٢٠١٤.
بيد انّ اميركا التي امتهنت الاستخفاف بالقانون الدولي العام ومارست الحروب العدوانية ضدّ الشعوب بذرائع مختلفة منها بدعة حقّ التدخل الإنساني المتقدّم على السيادة الوطنية، او إنقاذ العالم من خطر سلاح الدمار الشامل إلخ… وكلها بدع وذرائع تثبت كذبها والخطأ في إطلاقها، انّ أميركا هذه أنكرت على روسيا حقها بالدفاع المشروع عن النفس واعتبرت فعلها عدواناً وأعلنت عليها الحرب الشاملة ووصل الأمر بها الى الحدّ الذي اطلق فيه الرئيس الأميركي بايدن على الرئيس الروسي بوتين صفة «مجرم حرب» وتوعّده بأنه سيدمّر الاقتصاد الروسي ويعزل روسيا عن كامل العالم.
وفي المقابل كان الردّ الروسي وعلى لسان بوتين نفسه مؤكداً الحقّ الروسي بالدفاع المشروع عن النفس ومظهراً إصراره على المضيّ في العملية العسكرية التي أطلقها حتى تحقيق أهدافها المحددة والمعلنة وموجها بشكل صريح او ضمني رسائل واضحة لكلّ معني بالأمر بانّ روسيا لن توقف عمليتها قبل تحقيق أهدافها، وانّ هذه الأهداف يمكن ان تتحقق بالتفاوض إذا استخلصت حكومة كييف العبر من مجريات العملية حتى الآن وانّ تقديم الدعم العسكري لكييف لن يمكنها من الصمود أمام الآلة العسكرية الروسية الماضية قدماً في أعمالها العسكرية حتى النهاية. وأخيراً انّ من حقّ روسيا ان تتصرف وفقاً لمصالحها الدفاعية مع مقدّمي تلك المساعدات وقوافل الإمداد التي تحملها، والمتطوّعين الذين يجندهم الغرب من المرتزقة للقتال في أوكرانيا وبالتالي بات الصراع في أوكرانيا محكوماً باستراتيجيتين:
ـ أولى روسية وتتمثل بالضغط العسكري للوصول الى التفاوض، دون التوسع باحتلال الأرض والاكتفاء بتدمير القدرات العسكرية لحكومة كييف بما يدخلها في الانهيار الميداني ويحملها على الدخول في تفاوض جدي والاستجابة لطلبات روسيا ذات الطبيعة الدفاعية عسكرياً واستراتيجياً وسياسياً، وبما يحول دون تحوّل أوكرانيا مستقبلاً الى منصة تهديد للأمن القومي الروسي.
ـ الثانية أميركية غربية أطلسية وترمي الي إطالة أمد الصراع وجرّ روسيا الى حرب استنزاف لسنوات طويلة لإنهاكها واستنزاف قدراتها وإشغالها عن علاقتها الدولية والمشاركة في حلّ الازمات والمسائل الدولية ومنعها من التكامل الاستراتيجي مع الصين وإيران في إطار المجموعة الاستراتيجية العاملة لمنع أميركا من التسيّد على العالم في ظلّ نظامي دولي أحادي القطبية.
هما استراتيجيتان إذن تحكمان المواجهة في أوكرانيا التي باتت مسرحاً لصراع دولي ينظر إليه من الوجهة الروسية بأنه صراع وجودي ترى انّ الهزيمة فيه تعني نهايتها كدولة بصيغتها القائمة، لأن الهجوم الغربي سيتمدّد ليصل الى تفكيك روسيا ذاتها وشطبها كدولة اتحادية ذات موقع متقدّم في النظام الدولي، وترى فيه أميركا جسراً تعبر عليه ليخرجها من دائرة هزائمها ويمكنها من استعادة القبض على قرار العالم ومتابعة إحكام السيطرة على أوروبا وعلى مصادر الطاقة لتتفرّغ بعد ذلك لمواجهة الصين لاحتوائها.
اما في الميدان، فإنّ روسيا تسعى الآن لممارسة الضغط العسكري بأقصى ما يمكن، مع الاستعداد لتوسيع الاشتباك إذا اقتضى الأمر وزجّ قدرات جديدة ولا تبعد من حساباتها إمكانية الاشتباك مع الناتو إذا وصلت الى وضع لا يكون فيه مفرّ من هذا الاشتباك. أما أميركا فإنها خططت في الأصل لحرب بالوكالة تستعمل فيها كلّ ما هو بمتناول يدها شاملاً الإعلام والسياسة والاقتصاد والفن والرياضة إلخ… من دون ان تقحم قواتها العسكرية أولاً ودون استبعاد اللجوء اليها عند الاضطرار، مع التركيز على مسألتين الأولى منع كييف من الاستسلام والتوجه الى مفاوضات لتوقع فيها اتفاق إذعان مع روسيا، والثاني منع التراخي الأوروبي في مواجهة روسيا مهما كانت الظروف، وهنا يُطرح السؤال عن احتمالات المستقبل وعن نهاية الحرب، حيث يمكن تصوّر حصول واحد من ثلاثة احتمالات:
الأول: تمكن روسيا من تصعيد ضغوطها العسكرية في الميدان وإطلاق مفاوضات جادة مع أوكرانيا تفضي الى التسليم بالمصالح الروسية وتحقق أهداف العملية العسكرية بشكل مؤكد، وهو احتمال لا يبدو قريباً في الظرف الراهن انما ستستمر روسيا بالسعي وفقاً له.
الثاني: خشية روسيا من الثمن الباهظ في حال الانزلاق الى حرب استنزاف وفقاً للخطة الأميركية ما يحملها على التراجع التكتي عسكرياً والتوقف عن محاصرة المدن الكبرى مع الاحتفاظ بكامل السيطرة على كامل الدونباس وفرض الحصار البحري على أوكرانيا الى ان تتهيأ فرص الاتفاق على حلّ وسط يلبّي الأهداف الروسية الأساسية.
الثالث: تغيّر في استراتيجية روسيا او الناتو ما يؤدّي الى توسيع ميدان الحرب خارج حدود أوكرانيا وسقوط فرضيتي حرب الاستنزاف والحرب البديلة او الحرب بالوكالة. وهنا سيكون العالم كلّ العالم على اعتاب مرحلة صراع عالمي غير مسبوق ولم تعرفه حتى الحربين الأولى والثانية، وان انعقاد قمة الناتو في الأسبوع المقبل وبحضور بايدن شخصياً يؤشر الى أمر لا يمكن إهمال خطورته وهو الاحتمال الذي يبقى الأبعد تحققاً الآن.
أما فرضيات الدخول في حرب استنزاف كما تشتهي اميركا، او تراجع روسيا دون تحقيق أهدافها، فإننا نرى انهما فرضيتان لا يُعتدّ بهما الآن، لأنّ في ذلك انتحاراً روسياً من المستحيل ان تقدم روسيا عليه خاصة أنها تملك من القدرات والطاقات التي تمكنها من العمل في أيّ من الخيارات الثلاثة أعلاه وكلها تحقق لها مصالحها وإنْ تفاوتت سقوفها وحجم التضحيات والأثمان فيها.
*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ
Views: 2