عندما أقرّ لبنان السرية المصرفية بدءاً من عام 1956، كان الهدف جذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، ودعم الثقة بالاقتصاد القومي وبالجهاز المصرفي، وتشجيع الاستثمار المحلي والاجنبي. ومع اعتماد قوانين حفظ السرية الشبيهة بتلك المطبقة في سويسرا، تحول لبنان في فترتي الستينيات والسبعينيات الى مركز مالي للشرق الأوسط، وعاش القطاع المصرفي حال ازدهار ونموّ غير مسبوقة.
وقد نجحت مصارف في المهمّة إذ لم تفش أسماء مودعيها وحجم أموالهم والمعطيات المتعلقة بهم لأي شخص أو سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية، خصوصاً أنه تم ربط القانون بالمادة رقم 579 من قانون العقوبات التي تعاقب على إفشاء الأسرار من الأفراد الذين يعلمون بها بحكم وضعهم أو وظيفتهم، أو مهنتهم أو فنهم، من دون أن يكون هناك سبب شرعي أو استعمال لمنفعة خاصة أو لمنفعة أخرى.
ولكن مع توقيع الحكومة اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي على مستوى فريق العمل staff Level Agreement الذي تضمّن مجموعة من البنود من ضمنها ضرورة تعديل بعض أحكام قانون السرية المصرفية، أقر مجلس الوزراء الخميس الماضي مشروع قانون تعديل بعض أحكام قانون السرية المصرفية، وتعديل بعض المواد المرتبطة به في قانون النقد والتسليف، وقانون الإجراءات الضريبية، وقانون أصول المحاكمات الجزائية. وهذا يعني أن أحد متطلبات صندوق النقد للمضيّ قدماً في التفاوض مع لبنان وتوقيع اتفاق نهائي هو تعديل هذا القانون. فأصبحت هذه الخطوة حاجة ملحّة للحكومة اللبنانية في ظل عدم وجود حلول جدية سوى إبرام اتفاق مع الصندوق يُمنح بموجبه لبنان قرضاً مالياً يشكّل بداية حلّ للأزمة المستعصية.
وليس خافياً أن من شأن مشروع القانون المطروح الذي يتضمّن حزمة من التعديلات المقترحة على مجموعة قوانين نافذة وذات صلة بالسرية المصرفية، أن يقلب المشهد المصرفي رأساً على عقب ويؤسّس لمرحلة مصرفية جديدة تتوافق مع المتطلبات الدولية الخاصة التي تشدد على سد منافذ الأموال المشبوهة ومنع مرورها في القنوات المصرفية.
ومن أبرز التعديلات التي وردت في مشروع القانون المعجل والتي تحدّ من السرية الموسعة في قانون السرية المصرفية المعتمد حالياً:
– حظر فتح حسابات رقمية وتأجير خزائن حديدية لزبائن لا يعرف أصحابها غير مديري المصرف أو وكلائهم.
– إمكانية الحجز على الأموال والموجودات لدى المصارف بقرار صادر عن هيئة التحقيق الخاصة لدى البنك المركزي أو بقرار عن سلطة قضائية مختصّة أو بقرار عن أي سلطة تناط بها هذه الصلاحية.
– إلزام المصارف بالإفصاح وتقديم المعلومات، في ما خصّ الجرائم المالية المنصوص عليها في قانون غسل الأموال وتمويل الإرهاب الى هيئة التحقيق الخاصة، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد المنشأة حديثاً، لجنة الرقابة على المصارف، المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، مصرف لبنان والسلطات الضريبية المختصة بهدف إدارة الإيرادات، وإمكانية هذه الجهات أن تتبادل المعلومات في ما بينها.
– تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية لناحية إمكانية طلب النائب العام في محاكم التمييز والمدّعين العامّين الاستئنافيين وقاضي التحقيق بموافقة الهيئة الاتهامية، الطلب من المصارف الحصول على معلومات مشمولة بالسرية المصرفية في إطار التحقيق في الجرائم المالية.
ويرى الأستاذ الجامعي والخبير في القوانين المالية الدكتور مروان القطب أن “قانون السرية المصرفية المعتمد في لبنان صادر في عام 1956 ومضى عليه أكثر من 60 عاماً، وتالياً فإن تعديله أصبح أمراً لازماً لمواكبة لبنان المعايير الدولية وتحصين النظام المالي اللبناني من الثغرات التي يمكن النفاذ منها من أجل ارتكاب الجرائم المالية”، معتبراً أن تعديل هذا القانون “هو أحد المتطلبات الدولية لتوافق النظام القانوني اللبناني مع المعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وخصوصاً أن وزارة الخزانة الأميركية وجّهت تباعاً ملاحظات حول قانون السرية المصرفية اللبناني الذي يعتمد سرّية موسّعة لم تعد تتلاءم مع الواقع الدولي الذي يسعى الى الحدّ من الجرائم المالية”.
بيد أن القطب لاحظ أن “المشروع المقترح لم يأت على الإشارة الى رفع السرية المصرفية عن مصرف لبنان عند إجراء التدقيق الجنائي أو التدقيق الخارجي، الذي شكل عائقاً أمام المدقق الجنائي أخيراً لإنجاز المهام المطلوبة منه، التي لا يمكن أن تتم وفقاً للأصول المالية والمحاسبية إلا إذا أتيح للمدقق المختصّ الاطلاع الشامل على الحسابات ضمن الصلاحية المناطة به، مع تأكيد إلزامه بموجبات المحافظة على السر المهني للمعلومات التي اطلع عليها. فبدلاً من قوانين موقتة وضع قانون عام ومجرد يطبّق عند اجراء التدقيق”. ورأى أنه “كان يقتضي رفع السرية المصرفية عن الشخصيات السياسية المعرّضة PEPs بحيث يشكل ذلك رادعاً لهم ويحد من امكانية إخفائهم مصدر أموالهم التي يمكن أن تكون أموالاً عمومية أو مرتبطة بها”.
لا شك في أن أثر تخفيف السرية المصرفية على النشاط المصرفي سيكون ملحوظاً خصوصاً بعد التعافي الاقتصادي وعودة القطاع المصرفي الى أخذ دوره، “إلا أن الاستمرار في هذا النمط من السرية المصرفية لم يعد ملائماً للمعايير الدولية، والاستمرار به في ظلّ المتغيّرات العالمية التي تسعى الى مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، أصبح أمراً مستحيلاً”، وفق ما يقول القطب.
لبنان في انتظار “موافقة البرلمان على تعديل قانون السرية المصرفية لمواءمته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد والإزالة الفعالة للعقبات أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه، وإدارة الضرائب، وكذلك الكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها، واسترداد الأصول”، فهل سيبقى سويسرا الشرق، أم يتحول إلى فنزويلا الشرق؟
Views: 1