لماذا تأجّلت جولة الرئيس بايدن “الشّرق أوسطيّة” دُون تحديد تاريخ جديد؟ وهل تبدّدت فُرص لقائه المُنتظر مع الأمير محمد بن سلمان؟ وكيف لعب الدّهاء الروسي الدّور الأكبر في إجهاضها؟ وهل سيرفع النّمر الأمريكي الجريح راية الاستِسلام البيضاء أم سيضرب في كُل الاتّجاهات وأبرزها السعوديّة وأين وكيف؟
عبد الباري عطوان
أحدث الأخبار عن جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى مِنطقة الشرق الأوسط تؤكّد أنه تمّ تأجيلها إلى شهر تمّوز (يوليو) المُقبل دون تحديد تاريخ مُحَدَّد، وحتى هذا التاريخ الجديد بات غير مؤكّد، وقابل للتأجيل أو حتى الإلغاء، فما الذي يجري بالضّبط، ولماذا تتعثّر هذه الجولة، بينما تسير الجولات الأخرى للرئيس الأمريكي مِثل تلك التي قام في شرق آسيا ونيوزيلندا وأوروبا وفق الوقت المُحَدَّد دون أيّ تأخير أو تأجيل؟
الجواب مُمكن اختصاره في كلمةٍ واحدة “أوكرانيا” التي باتت محور اهتِمامات وأولويّات الرئيس الأمريكي، ودولته العميقة، ممّا قلّل من أهميّة منطقة الشرق الأوسط بطريقةٍ أو بأخرى ولو مُؤقَّتًا، وجاءت الضّربة الاستباقيّة الدبلوماسيّة الروسيّة النّاجحة التي قام بها وزير الخارجيّة سيرغي لافروف إلى المنطقة، وتكلّلت بعقد قمّة مع وزراء خارجيّة مجلس التعاون الخليجي في الرياض عن تنسيقِ المواقف في ميادين الطّاقة، وتعزيز اتّفاق “أوبك بلس” بِما أدّى إلى إجهاض جولة بايدن قبل بدئها، جاءت ضربة شبه قاضية للمُحاولات الأمريكيّة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه وترميم العُلاقات التي دخلت مرحلة التّدهور وبسُرعة.
الدبلوماسيّة الروسيّة نجحت حتى الآن في اختِطاف منطقة “الشرق الأوسط” من الحُضن الأمريكي، وبِما أدّى إلى البدء في تغيير خريطة التّحالفات الاستراتيجيّة فيها لمصلحة موسكو لأوّل مرّة مُنذ أكثر من 80 عامًا، حيث كانت الهيمنة الأمريكيّة مُطلقة دُون مُنازع خاصَّةً في منطقة الخليج، الأمر الذي جعل أيّ جولة للرئيس الأمريكي دُون قيمة، والأهم من ذلك أن احتِمالات فشلها أكبر بكثير من احتِمالات نجاحها، فمن كان يُصَدِّق أن الدّول الملكيّة الخليجيّة تقف في الخندق نفسه مع نظيراتها “الثوريّة” و”اليساريّة” مِثل الجزائر وسورية والعِراق ومِصر؟
المحطّة الأهم في زيارة بايدن “المُفترضة” هي الرياض، ولقاؤه على وجه الدقّة مع الأمير بن سلمان ولي العهد السعودي، والحاكم الفِعلي للمملكة العربيّة السعوديّة لإنهاء القطيعة معه، وكان لافتًا أن الخطاب الأمريكي تُجاه هاتين المسألتين قد تغيّر ممّا أدّى إلى تبديد كُل التّقديرات المُتفائلة في هذا الصّدد، وانعكس كُل ذلك في خطابٍ أمريكيّ قديم مُتَجَدِّد أبرز فقراته “ليس لدي أيّ خطط مُباشرة في الوقت الرّاهن لزيارة السعوديّة”، ثمّ تصريح آخر أكثر وضوحًا “إعلان أوبك زيادة إنتاج النفط خطوة إيجابيّة ولكنّها غير كافية”، أمّا الضّربة شِبه القاضية للجولة قد تمثّلت في قوله عندما سُئِل، أيّ بايدن، من السّابق لأوانه الحديث عن لقائي الأمير بن سلمان الآن”، وأعطى المُتحدّث باسم البيت الأبيض تفسيرات أكثر وضوحًا عندما قال “إن الرئيس بايدن لن يُغيّر وجهة نظره بشأن حُقوق الإنسان ودور وليّ العهد السعودي في قتل الصحافي جمال خاشقجي وتقطيع جثّته، حسب تقرير وكالة المُخابرات الأمريكيّة (سي آي إيه) ممّا جعله “منبوذًا”.
الحقيقة مُغايرة لذلك تمامًا، فالقيادة الروسيّة سارعت باستِغلال هذه “الجفوة” السعوديّة الأمريكيّة بكسر الكثير من العُزلة الخارجيّة عن الأمير بن سلمان، مثلما استغلّت هذه العُزلة لإبعاده، أيّ الأمير بن سلمان، عن حليفه الأمريكي وتقديم طوق نجاة له، وجرّه إلى ملعبها من خلال التمسّك باتّفاق “أوبك بلس” ورفض كُل المطالب والضّغوط الأمريكيّة بتجاوزه، وزيادة الإنتاج النفطي بِما يُؤدّي إلى إغراق الأسواق وتخفيض الأسعار بالتّالي بعد أن ثَبُتَ أن السّياسات الأمريكيّة البديلة في السّحب من المخزون الاحتياطي فشلت في تحقيق أهدافها، ولا يُمكن استمرارها لأعوامٍ قادمة.
الأمر المُؤكّد أن أمريكا خسرت مُعظم دول الخليج (باستِثناء قطر) لمصلحة الحليف الروسي الجديد الأكثر دهاءً، وانعكست هذه الخسارة في اجتِماع أوبك الأخير بزيادة إنتاج النفط 200 ألف برميل يوميًّا فقط، ممّا يعني عدم الاستِماع للمطالب والاستِجداءات الأمريكيّة التي تُريد أن يكون هذا الارتفاع أكثر من مِليون برميل يوميًّا على الأقل.
السُّؤال المطروح بقوّة حاليًّا: هل ستقبل إدارة الرئيس بايدن بهذه الهزيمة بسُهولةٍ وترفع الرّاية البيضاء استِسلامًا؟
الجواب “لا” كبيرة، فبايدن يُطبّق سياسة الدولة الأمريكيّة العميقة في منطقة الشرق الأوسط، ويملك أوراق قوّة عديدة أبرزها القواعد الأمريكيّة في منطقة الخليج التي لم يتم إقامتها من أجل حماية هذه الدول، وإنما فرض التِزام حُكوماتها بالسّياسات الأمريكيّة، وتقديم كُل واجبات الطّاعة والولاء.
أمريكا، الآن مِثل النّمر الجريح بسبب التّقارير الأوليّة عن حرب أوكرانيا التي تُرجِّح كفّة “الخصم” الروسي عسكريًّا واقتصاديًّا، وفشل شِبه كامِل للعُقوبات الاقتصاديّة، أمّا في مِنطقة الشرق الأوسط، فقد فشلت، أو كادت، ومُفاوضاتها في فيينا حول البرنامج النووي الإيراني نحن في انتظار تحديد موعد الدّفن، وبدأ مُعظم حُلفائها يقفزون أو يتعلّمون القفز من سفينتها شبه الغارقة واللّجوء إلى يابسة التحالف الروسي الصيني الجديد الأكثر صلابةً، وهذا النّمر الجريح يُمكن أن يضرب في جميع الجهات، وقد تكون المملكة العربيّة السعوديّة أبرزها.. واللُه أعلم
Views: 2