هل الخِطاب الأردني “الدّافئ” تُجاه فتح صفحة جديدة مع إيران يتّسم بالجديّة أم مُجرّد موقف دبلوماسي عابر؟ وماذا استفاد الأردن من “توتير” عُلاقاته مع طِهران مُجاملةً لدول الخليج؟ ولماذا جاء توقيت هذا الخِطاب المفاجئ قبل أيّامٍ من زيارة بايدن للسعوديّة؟
عبد الباري عطوان
جاءت تصريحات الدكتور بشر الخصاونة رئيس وزراء الأردن التي أدلى بها لمحطّة تلفزيون “بي بي سي” العربيّة قبل يومين لافتةً للنّظر بسبب لهجتها الدّائفة تُجاه إيران وقوله “إن إيران لا تُهَدِّد الأمن القومي الأردني ولا تعتبرها مصدرًا للتّهديد”، وأضاف “إنّنا مُنفتحون على علاقاتٍ صحيّة مع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة”.
هذه هي المرّة الأولى ومُنذ سنوات عديدة يتحدّث مسؤول أردني رفيع في مُستوى الدكتور الخصاونة رئيس الوزراء بهذه اللّهجة غير العدائيّة لإيران، وفي مِثل هذا التّوقيت مع قُرب انعِقاد مُؤتمر جدّة الذي سيتزعّمه الرئيس الأمريكي جو بايدن، وتُشير تسريبات في الصّحف الغربيّة بأنّ الهدف الرئيسي مِنه إقامة “تحالف الشّرق الأوسط” أو “النّاتو العربي” بمُشاركة إسرائيل وبهدف ضرب إيران.
من يعرف المطبخ الأردني، بشقّيه السّياسي والدّبلوماسي، يُدرك جيّدًا أن هذه التّصريحات الإيجابيّة المُفاجئة تُجاه إيران، وفي مِثل هذا التّوقيت، لا يُمكن أن تكون من قبيل الصّدفة، أو زلّة لسان، وإنّما نتيجة قرار سياسي جرى اتّخاذه على أعلى المُستويات في الدّولة الأردنيّة.
فإذا عُدنا إلى الوراء قليلًا، ولبضعة أسابيع تحديدًا، نجد أن الخطاب الأردني تُجاه إيران كان عدائيًّا، حيث اتّهم أكثر من مسؤول أردني جماعات مُسلّحة في جنوب سورية، ومدعومة من إيران، بالتورّط في “حرب المخدّرات” وعلى الحُدود السوريّة الأردنيّة، وما لم يقله هؤلاء المسؤولين الأردنيين، أن عمليّات التّهريب التي تقوم بها هذه الجماعات لا تقتصر على المخدّرات، وتشمل التّهريب “الأخطر” لأسلحة وجهتها النهائيّة فِلسطين المحتلّة لدعم الانتِفاضة المسلّحة ضدّ الاحتِلال.
نتّفق في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” بأنّ إيران لم ولن تُشكّل خطرًا على الأمن القومي الأردني بحُكم المكانة الخاصّة للأُسرة الهاشميّة الأردنيّة لدى الإيرانيين، حُكومةً وشعبًا، بسبب احتِرامهم وتقديرهم لآل البيت، ومُلوك الأردن على وجه الخُصوص، مثلما نتّفق مع الدكتور الخصاونة في قوله “إنّ الخِلافات مع إيران تعود إلى تدخّلها في الشّؤون الداخليّة ببعض الدول الخليجيّة التي تعتبر أمنها من أمن الأردن”.
بمعنى آخر لا يُوجد خِلاف مُباشر مع إيران، وإنّما وقوف الأردن، وبشَكلٍ مُبالغٍ فيه إلى جانبِ دولٍ خليجيّة، وخاصَّةً المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات، تُعادي إيران وتعتبرها خطرًا عليها، سواءً من قبيل المُجاملة، أو الرّضوخ لمطالبٍ أمريكيّة، أو أمَلًا في الحُصول على بعض المُساعدات الماليّة قد تُساهم في إخراج الأردن، ولو جُزئيًّا، من أزماته الاقتصاديّة الطّاحنة، أو لجميع هذه العوامل.
من المُؤسف أن كُل هذه التّضحيات الأردنيّة، وعلى رأسها توتير العُلاقة مع إيران طِوال السّنوات الماضية، لم تُقابل إلا بحِصار مالي للأردن من قِبَل مُعظم الدّول الخليجيّة، وعدم الإيفاء باتّفاقات سابقة أبرزها الالتزام بمنحة سنويّة خليجيّة بمِقدار مِليار دولار.
الحُكومة الأردنيّة كانت تُعَوِّل كثيرًا على زيارة الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد، والحاكِم الفِعلي للسعوديّة قبل أسبوعين إلى الأردن، من حيث تقديم معونات، أو ضخّ استِثمارات في مشاريعٍ أردنيّة ضخمة، ولكنّ الزّيارة التي لم تستمر إلا لساعات، وحظي خِلالها الأمير السّعودي باستقبالٍ كبير لم تَرْتَقِ إلى مُستوى هذه الآمال والطّموحات الأردنيّة حتّى الآن على الأقل.
الانفتاح على إيران، بالأفعال وليس بالتّصريحات فقط، يُمكن أن يَصُب في مصلحة الأردن الاقتصاديّة والأمنيّة، فإيران التي تتزعّم محور المُقاومة الأقوى في المنطقة والمُتعدّد الأذرع، والمدعوم بالتّسليح الذّاتي العسكري المُتطوّر جدًّا (إرسال إيران طائرات مُسيّرة لروسيا ومنظومات صواريخ دقيقة) على المدّيين القريب والبعيد، خاصَّةً أن إيران تُرَحِّب بمِثل هذا الانفتاح وتُرسل رسائل إيجابيّة لترجمته على أرض الواقع، ولكن الرّد الأردني يأتي مُتَحَفِّظًا دائمًا.
فإذا كانت المملكة العربيّة السعوديّة العدوّ اللّدود لإيران تُرحّب بالحجّاج الإيرانيين، وتفرش لهم السجّاد الأحمر، فلماذا لا يفعل الأردن الشّيء نفسه، ويفتح أضرحة أئمة الشّيعة في جنوب الأردن، حيث ضريح الصحابي جعفر الطيّار الذي يُمكن أن يكون العُنوان الأبرز بمِئات الآلاف من الإيرانيين إلى الأردن، على غِرار السيّدة زينب في دِمشق، وبِما يعود إلى ميزانيّته بأكثر من مِليار دولار سنويًّا حسب التّقديرات شِبه الرسميّة؟
السّياسات الأردنيّة، وخاصَّة تُجاه إيران، ومحور المُقاومة بشَكلٍ عام، بحاجةٍ إلى مُراجعاتٍ جديّة، أبرزها إعادة النّظر في عُلاقاتها مع إيران مُجاملةً أو إرضاءً لبعض الدّول الخليجيّة، وهي مُجاملةٌ لم تعد عليه وشعبه إلا بالكثير من خيبات الأمل لعدم تقدير أولئك لمِثل هذه التّضحيات المُكلفة سياسيًّا وأمنيًّا في الوقتِ نفسه.
نتمنّى أن تكون تصريحات الدكتور الخصاونة “الدّافئة” و”الانفتاحيّة” على إيران مُقدّمة لفتحِ صَفحةٍ جديدةٍ، ولمصلحة الأردن، وليس لمصلحة إيران، وإلا ما هي فائدة إيران الدّولة الإقليميّة العُظمى من الأردن الغارق في الأزمات من شتّى الأنواع؟
يجب أن يُدرك الأشقّاء في الأردن أنّ حرب أوكرانيا غيّرت وستُغيّر جميع المُعادلات الدوليّة، وما قبْلها من سِياساتٍ وتحالفاتٍ لا تَصلُح لِما بعدها.. والسّعيد من اتّعظ بغيره.
Views: 2