هل حقّق بايدن جميع أهدافه من زيارته “الذّليلة” للسعوديّة ومُشاركته في قمّة “جدّة”؟ وما هُما “الصّفعتان” الإيرانيّتان.. والرّد القويّ عليها؟ ولماذا نأت مُعظم الدّول المُشاركة نفسها عن “النّاتو العربي” ووأدته مُبكّرًا؟ إليكُم قراءةً مُختلفة
عبد الباري عطوان
إذا كان الرئيس الأمريكيّ السّابق دونالد ترامب قد عاد من زيارته القصيرة للرياض (36 ساعة) في بداية حُكمه وفي جُعبته أكثر من 460 مِليار دولار، فإنّ خلفه جو بايدن عاد إلى البيت الأبيض بعد قمّة جدّة خالي اليدين، باستِثناء بعض الاتّفاقات والوعود “الأوّليّة” التي لا تخدم بلاده، وإنّما دولة الاحتِلال الإسرائيلي، مِثل “انتزاع” تعهّد سعودي، لم يُؤكّد رسميًّا، بتبادل لشركات الطّيران السعوديّة والإسرائيليّة بعد فتح الأجواء السعوديّة أمام الطّيران الإسرائيلي مُقابل المُوافقة الرسميّة بالاعتِراف بنقل جزيرتيّ تيران وصنافير إلى السّيادة السعوديّة، وربّما رفع “الفيتو” الأمريكي “المزعوم” عن تولّي الأمير بن سلمان العرش السّعودي خلفًا لوالده.
الرئيس بايدن أثبت عمليًّا خلال هذه الزّيارة للمنطقة مقولته التي تؤكّد أنه “ليس شرطًا أن تكون يهوديًّا حتّى تُصبح صُهيونيًّا” عندما دشّن أثناء زيارته لفِلسطين المحتلّة ما يُسمّى بـ”إعلان القدس” الذي تعهّد فيه بالدّفاع عن أمن إسرائيل، وبقائها “دولةً يهوديّة ديمقراطيّة لها جُذور في الأرض الفِلسطينيّة” مثلما تعهّد أيضًا بمنع إيران من امتلاك أسلحة نوويّة، وبهذا أصبح فعلًا أكثر صُهيونيّةً من الصّهاينة أنفسهم.
الأمير محمد بن سلمان، الحاكِم الفِعلي للمملكة تعمّد إهانة الرئيس بايدن الذي توعّد بعزله والمملكة، على أرضيّة تحميله المسؤوليّة الأولى عن اغتِيال الصّحافي السعودي جمال الخاشقجي، عندما أرسل أمير مكّة المكرّمة خالد الفيصل لاستِقباله في مطار جدّة، بينما كان وليّ العهد على رأس مُستقبلي جميع الزّعماء الثّمانية المُشاركين في القمّة، وعانقهم بحرارةٍ لافتة، في رسالةٍ واضحةٍ بالإهانة والتّجاهل إلى ضيفه الأمريكي، تمامًا مثلما فعل، بطَريقةٍ أو بأُخرى، بغريمه الآخر، رجب طيّب أردوغان الذي غادر المملكة دُونَ أن يحصل على “ريال واحد”، أو أيّ عقد باستِثماراتٍ سعوديّة تجاريّة أو عسكريّة حتّى الآن على الأقل.
بايدن أثبت أنّه “عميد الكذّابين” عندما تراجع عن أقواله وتهديداته في المِلف السّعودي وعمل عكسها، وأوّلها قوله أنّه لن يجتمع على انفِرادٍ بالأمير محمد بن سلمان، ولن يُصافحه، وسيلتقيه في اجتماعٍ عام مع المسؤولين الخليجيين المُشاركين في القمّة، ولكن ما حصل أمام عدسات التّلفزة جاء نقيضًا لكُل ذلك تمامًا، والصّور الحيّة” لا تكذب.
صحيح أنّ بايدن طرح قضيّة اغتيال الخاشقجي كما وعَد، وكرّر كلامه حول التِزامه بحُقوق الانسان، واعتبر عمليّة الاغتيال هذه “فظيعة”، ولكنّ هذا الكلام كان للصّحافة، والوفد الإعلامي المُرافِق له، وجاءت المُقارنة من قِبَل وليّ العهد السّعودي بين هذه الجريمة ونظيرتها باغتيال الإسرائيليين للصحافية شيرين أبو عاقلة الأمريكيّة الجنسيّة، وعدم فِعل أمريكا أيّ شيء للثّأر من قاتليها أو مُحاكمتهم أمام محكمة الجنايات الدوليّة أو عزْلهم، ردًّا سعوديًّا قويًّا ومُفْحِمًا على ضيفه الأمريكي فضح ثقافة الازدواجيّة.
الرئيس بايدن ذهب إلى السعوديّة مُكرَهًا ولتحقيق عدّة أهداف، أبرزها دفعها، ودول خليجيّة أُخرى لزيادة إنتاج النّفط لخفض الأسعار، وتشكيل ناتو عربي خليجي إسرائيلي لمُواجهة إيران، ودمْج دولة الاحتِلال في المِنطقة من خِلال خطواتٍ تطبيعيّةٍ أوسَع، ولا نعتقد أنّ أيّ من هذه الأهداف قد تحقّق، فمِصر الذي شنّ إعلامها هُجومًا ساحِقًا، وغير مسبوق على الرئيس بايدن، نأت بنفسها عن هذا “النّاتو”، وتفاوضت سِرًّا مع إيران، ولن تتورّط في أيّ حربٍ ضدّها، بينما الأردن أعلن عبر وزير خارجيّته أن إيران ليست عدوًّا، وأبدَى استِعداده لفتح صفحة جديدة معها، وذهبت دولة الإمارات إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أرسلت سفيرًا إلى طِهران لتوثيق العُلاقات معها عشيّة قمّة جدّة، وتُقيم سلطنة عُمان والكويت وقطر علاقات وثيقة مع طِهران.
لعلّ الفقرة التي وردت في خِطاب الأمير بن سلمان الافتتاحي للقمّة، وقال فيها إنّ إنتاج النفط السعودي وصل سقفه الأعلى (13 مِليون برميل يوميًّا ويشمل الاستِهلاك الدّاخلي)، أيّ أنّه لا يُمكن زيادة هذا الإنتاج مُطلقًا في المُستقبل المنظور، هذه الفقرة كانت الرّد الأبلغ والأوضح على الهدف الرّئيسي الذي جاءت زيارة بايدن المُذِلَّة لتحقيقه، ولا نستبعد ارتفاعًا وشيكًا لأسعار النفط والغاز في الأيّام المُقبلة بسببها.
لا نعرف مدى جديّة انضِمام السعوديّة إلى الشَّق الإيراني من “إعلان القدس”، أيّ منع ايران بكُل الوسائل من إنتاجِ أسلحةٍ نوويّة، فهذا القول جاء على لسان الرئيس بايدن، وإذا صحّ، فإنّ المملكة قد تجد نفسها وحدها في الخليج والمِنطقة في هذا الحِلف، وما يجعلنا نستبعد ذلك أن البيان الختامي الصّادر عن القمّة تحدّث عن تأييد عدم الانتشار النووي.
لدينا شُكوك كثيرة حول ما قاله الرئيس بايدن حول استِعداد المملكة لتأييد التعهّد الإسرائيلي الأمريكي الذي ورد في “إعلان القدس” بمنع إيران بكُلّ الوسائل من إنتاج أسلحةٍ نوويّة، حيث لم يَصدُر أيّ تأكيد رسمي على حدّ علمنا، كما أنّ البيان الختامي للقمّة أشار بشَكلٍ إنشائيّ عام إلى تأييد حظْر الانتشار النووي في المِنطقة دون الإشارة بالاسم إلى إيران، وخلوّ مِنطقة الخليج من أسلحة الدّمار الشّامل، ودعوة إيران إلى التّعاون مع منظّمة الطّاقة النوويّة، وإن كُنّا نتمنّى أن لا تقتصر مُعارضة ورفض وجود أسلحة الدّمار الشّامل (النوويّة) على مِنطقة الخليج فقط، واستِثناء المِنطقة العربيّة كلّها، وتجاهل الأسلحة النوويّة الإسرائيليّة بالتّالي، فلماذا يخوض العرب الحرب الإسرائيليّة الأمريكيّة ضدّ إيران، أو يتَحوّلوا إلى ميدانِ دمارٍ لها؟
النّقطة الأخيرة التي لا يُمكن تجاهلها في خِطاب بايدن أمام القمّة، تعهّده بأنّه لن يسمح لروسيا والصين وإيران بمَلء الفراغ، والسّيطرة على مِنطقة الشّرق الأوسط بالتّالي، وكأنّ المِنطقة “إقطاعيّة” له وبلده وحُلفائه الإسرائيليين، فكيف سيُحَقِّق هذا الهدف ومُعظم الزّعماء الخليجيين، وغير الخليجيين، فقدوا الثّقة كُلِّيًّا فيه، وبلاده، بعد هزائمها المُهينة في أفغانستان والعِراق، والآن في أوكرانيا، وفشل سِلاح العُقوبات الذي اعتمدت عليه، وهو الذي لم يُرسِل جُنديًّا أمريكيًّا واحِدًا للدّفاع عنها، وحتّى الأسلحة التي أرسلها وحُلفائه لجيشها، تمّ بيعها في الأسواق السّوداء وسرقة ثمنها من قِبَل جيش من السّماسرة الأمريكيين والأوروبيين.
إيران استقبلت بايدن بصفعتين: الأُولى إرسال سرب بعشرات المُسيرّات إلى الأجواء الخليجيّة في مُظاهرةِ تَحَدٍّ، والثّانية باستقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمّةٍ ثُنائيّةٍ مع رئيسها في طِهران بعد بضعة أيّام، ربّما تتحوّل إلى ثُلاثيّةٍ إذا انضمّ إليها الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، وقد تتمخّض عن حِلْفٍ إقليميّ جديد “مُضاد” للرّد بقُوّةٍ على أيّ حِلف ناتو عربي بزعامة إسرائيل ورعايةٍ أمريكيّة، وتزويد إيران بمنظومات “إس 400” الصّاروخيّة المُتقدّمة، وطائرات حربيّة حديثة، وإعادة السّيادة السوريّة إلى مُعظم، أو كُل الأراضي الخارجة عن السّيادة الرسميّة.
المُعادلات على الأرض، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا في مِنطقة الشّرق الأوسط تتغيّر، ولمصلحة الحِلف الصيني الروسي الإيراني، ومنظومة دول “البريكس” الخُماسيّة، وأمريكا اليوم وبعد هزيمتها شِبْه المُحَقَّقة في أوكرانيا ليست أمريكا الأمس، ومن سيُراهِن عليها سيخسر حتمًا.. والأيّام بيننا.
Views: 4