ماذا يعني إرسال ثلاث مُسيّرات لقصف قاعدة “التنف” الأمريكيّة بعده بساعات؟ ومن الذي أرسلها؟ وكيف أثبتت سياسة ضبْط النّفْس السوريّة صُدقيّتها سواءً باتّجاه تركيا أو “إسرائيل”؟ وما هي توقّعاتنا للأيّام القليلة القادمة؟
عبد الباري عطوان
عُدوانٌ إسرائيليّ مُزدوج استهدف ريف دمشق جنوبًا، ومُحافظة طرطوس في الشّمال الغربي، أسفر عن سُقوط ثلاثة شُهداء من الجيش العربي السوري، وإصابة ثلاثة آخرين، ولكن بعد ساعاتٍ جاء الرّد بإرسال ثلاث مُسيّرات قصفت قاعدة التّنف الأمريكيّة الواقِعة على مُثلّث الحُدود السوريّة العِراقية الأردنيّة، ونفى الجانب الأمريكي كالعادة وقوع أيّ خسائر في صُفوفه.
كُنّا نتمنّى، والملايين مِثلنا في سورية وخارجها أن يكون الرّد فوريًّا ومن مُنطلق الدّفاع عن النفس، على أهداف عسكريّة إسرائيليّة في العُمُق الفِلسطيني المُحتل، ولكن ليس كُل ما يتمنّاه المرء يُدركه في الوقتِ الرّاهن على الأقل، “فالذي يده في النّار ليس مِثل الذي يده في الميّة” مثلما يقول المثل الشّعبي.
سياسية ضبْط النفس السوريّة، وعدم الانجِرار إلى مصائدِ الآخَرين، من خِلال الإقدام على رُدود فِعل “نَزِقَة” غير مدروسة ودُون التّنسيق مع الحُلفاء، وخاصَّةً في روسيا وإيران ولبنان (حزب الله) ربّما أعطت نتائجها الإيجابيّة، فالمِنطقة باتت على سطحِ صفيحٍ ساخن، وقد تنفجر الحرب في أيّ لحظة، سواءً بقُبول إيران بالاتّفاق النووي في صيغته الأوروبيّة المُعدّلة أو رفضها له (الموعد النّهائي للرّد مُنتصف الليلة)، فالقُبول قد يعني هُجومًا إسرائيليًّا انتحاريًّا لتخريبه وخلط الأوراق، والرّفض قد يعني المزيد من العُقوبات، والرّد بعملٍ عسكريّ أمريكيُ مُحتَمل لاحقًا، ولا ننسى المُهلة التي حدّدها السيّد حسن نصر الله، أمين عام “حزب الله”، لدولة الاحتِلال الإسرائيلي بالتقدّم بترسيم حُدود بحَريّ عادِل ومقبول للبنانيين في غُضون أسبوعين، يُمَكِّن لبنان من استِغلال ثرواته الغازيّة والنفطيّة كاملة، وإلا فإنّه في حَلٍّ للجوء إلى القوّة لتحرير هذه الثّروات تمامًا مثلما تمكّنت المُقاومة من تحرير “الحِزام الأمني” في جنوب لبنان وإلحاق هزيمة ثانية مُذِلَّة بالجيش الإسرائيلي، يحتفل العرب واللبنانيين في حرب تمّوز (يوليو) عام 2006 التي تحل اليوم ذِكرى نصرها المُشرّف.
القادة العسكريّون الإسرائيليّون فَهِمُوا جيّدًا الرّسالتين اللّتين أرسلهما “حزب الله” في الأسابيع القليلة الماضية، الأولى كانت بإرسال ثلاث مُسيّرات في مَهمّةٍ استطلاعيّة فوق حقل “كاريش” اللبناني الذي تُحاول دولة الاحتلال وضع اليَد عليه وسرقة ثرواته، أدّت الغرض منها بنجاح من حيث الوصول إلى الهدف، وتصوير المَعدّات الإسرائيليّة، والثانية بثّ قيادة الإعلام الحربي للحزب شريط “فيديو” يُوثّق بالصّور جميع المنصّات “الغازيّة” الإسرائيليّة على طُول السّاحل الفِلسطيني المُحتل، والسّفن الحربيّة التي تتولّى حِمايتها، ممّا يعني أنها ستكون جميعًا هدفًا للصّواريخ الذكيّة والدّقيقة.
الرّعب الأكبر الذي يسود المُؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة، إلى جانب ما ذكرناه آنفًا، هو فتْح الجيش السوري و”حزب الله” جبهة الجولان، الخاصِرة الإسرائيليّة الهشّة، جنبًا إلى جنب مع جبهة الشّمال (جنوب لبنان) والسّاحل الفِلسطيني المُحتل، وقِطاع غزّة ولعلّ هذه الهجمات المُتواصلة على ريف دِمشق ومُحيط المطار، دليلُ ارتباك من تسرّب معلوماتٍ استخباريّة تُفيد بالاستِعداد لمعركة الجولان القادمة، بإرسال مَعدّات وصواريخ حديثة ومُتطوّرة.
لا نفهم حتى الآن استهداف قاعدة التنف الأمريكيّة، وعُلاقته بالعُدوان الإسرائيليّ الأخير على سورية، فحتى هذه اللّحظة لم تُعلن أيّ جهة مسؤوليّتها عن إرسال هذه المُسيرّات، والهدف من ورائها، وربّما جاء هذا الهُجوم انتقامًا من استِخدام “إسرائيل” لهذه القاعدة لشنّ هجمات على سورية والعِراق معًا، وتوجيه رسالة تحذير للولايات المتحدة تُؤكّد أن “القاعدة المذكورة” لن تكون آمنة في حال اشتِعال فتيل الحرب الإقليميّة المُحتَملة، وربّما الوشيكة.
نعترف نحن الذين كُنّا نقف دائمًا في خندق مُتعجّلي الرّد السوري القوي على العُدوانات الإسرائيليّة المُتواصلة (300 عُدوان حتّى الآن)، أن سياسة ضبْط النّفس السوريّة ونجاحها في امتِصاص هذه الهجمات والتّعايش معها، والعضّ على النّواجز رُغم الألم، قد أثبتت حكمتها، من حيث التّركيز على الهدف الأكبر وهو الحِفاظ على وحدة التّراب السوري، وعلى كيفيّة مُواجهة “المُؤامرة” التي تُريد تجزئته وتفكيكه، وخلق الفوضى من خِلال ضخّ مِئات الآلاف من المِليارات، وتجنيد عشَرات الآلاف من المُسلّحين لتحقيق هذا الهدف.
فعندما يُعلن السيّد مولود جاويش أوغلو وزير الخارجيّة التركي رسميًّا أنه التقى نظيره السوري في بلغراد وأن حُكومته مُلتزمة بوحدة سورية، ومُستعدّة للحوار والمُصالحة معها، ودعمها سياسيًّا في مُواجهة الجماعات الكرديّة المُتمرّدة، والانخِراط في حِوارٍ مع الدّولة السوريّة لتسوية مسألة خمسة ملايين لاجئ سوري في تركيا وإعادتهم إلى بلدهم، فهذا اعتِرافٌ، ليس بفشل المشروع التركي في سورية بعد عشر سنوات، وإنّما بنجاح الإدارة السوريّة للأزمة سياسيًّا وعسكريًّا، فمَن كان يتوقّع أن تَحرِق المُعارضة السوريّة المُسلّحة العَلم التركي احتجاجًا على التّراجع التركي الأخير، ويَشعُر ملايين اللاجئين السوريين في تركيا بالخُذلان والطّعن في الظّهر من قِبَل الحليف التركي، واستِعداده للتخلّي عنهم.
السّلطات السوريّة التي تلتزم الصّمت إزاء جميع هذه العُروض التركيّة وتُصِر في الوقت نفسه على ضرورة تلبية جميع شُروطها في الانسِحاب التركي الكامل من أراضيها والاعتِذار والتّعويض، خرجت من عُنُق الزّجاجة فيما يبدو، ولسان حالها يقول للرئيس أردوغان “بِضاعتكم رُدّت إليكُم”، ودوركم كوسيط بين الحُكومة السوريّة والمُعارضة غير مقبول قبل الالتِزام بشُروطنا كاملة وتنفيذها، وبعدها سنَدرُس.
ردّ محور المُقاومة السوري الايراني الفِلسطيني العِراقي اليمني اللبناني (حزب الله) باتَ أقرب من أيّ وقتٍ مضى، وسورية الوطن الرّافض للتّطبيع، والتّنازل عن الحقّ العربي الإسلامي في فِلسطين المُحتلّة عائدةٌ بقُوّةٍ إلى المكانة التي تستحق.. والأيّام بيننا
Views: 3