السكارى من فشل السلطة السياسية في معالجة تداعيات الأزمة الاقتصادية، لم يعودوا يعدّون «أقداح» الخطط. فـ»الكؤوس» المرفوعة التي «ترن» بالمرادفات الاصلاحية وما تشتهي سماعه الجهات الدولية، طعمها علقم. وستعلق كـ»الشوكة» في حلق المواطنين عامة والمودعين خاصة، في حال أجبروا على تجرّعها.
بعدما نفضت الحكومة يدها من الاتفاق المبدئي الموقع مع وفد صندوق النقد الدولي عقب الانتخابات النيابية، عادت إلى تعديل استراتيجية النهوض بالقطاع المالي مرة جديدة. وإذ حافظت على كل العناوين النظرية في ما خص السياسات الاقتصادية والاجتماعية، أدخلت بعض التغييرات على مضمون «سياسة إصلاح القطاع المالي». ومن أبرزها إقتراح إنشاء «صندوق استرداد الودائع» deposit recovery fund.
ما هو الصندوق
بحسب الاقتراح يصدر «الصندوق» أوراقاً مالية لصالح المودعين أصحاب الحسابات الفائضة عن المستوى المطلوب لتطبيق خطة معالجة الفجوة المالية في القطاع المصرفي، بما في ذلك تغطية الودائع إلى حدود 100 ألف دولار والمساهمة المطلوبة في رأس مال المصرف. بما يؤمن استرداد أكبر قدر ممكن من الودائع التي تفوق قيمتها 100 ألف دولار. ويُمَول هذا الصندوق من بعض أصول البنوك بما في ذلك إيداعاتها، وشهادات الايداع في المركزي، ومن الاموال المهربة أو المسروقة وغير المشروعة. ويدار من هيئة مستقلة من القطاع الخاص يكون للمودعين دور أساسي فيها.
إستخدام عائدات الأصول
المفارقة ان هذا الصندوق غير المحدد الآجال، لم يأت على ذكر استخدام أصول الدولة بالمباشر، إنما أشار لامكانية الاستفادة من عائداتها. وكما يبدو فان الخطة المطروحة بصيغتها الجديدة تحاول «الموازنة بين ما قد تقبله الادارة السياسية في البلد، وبين تحقيق أقصى عدالة ممكنة من عملية توزيع الخسائر، خصوصاً في ما يتعلق بالمودعين الكبار ومتوسطي الحجم»، برأي المديرة التنفيذية لمنظمة كلنا إرادة ديانا منعم. فـ»صحيح أن صندوق استرداد الودائع لا يذكر استعمال أصول الدولة بالمباشر، إنما يربط جزءاً من فائض العائدات المحققة من أصول الدولة للتعويض على المودعين. وذلك بعد تحقيق معدلات معينة من النمو، وضمان استدامة الدين العام، وتقديم الخدمات الاساسية للمواطنين». وهذا «بيت القصيد»، بحسب منعم، خصوصاً أن «الاتكال في هذا الصندوق على عوائد أصول المصارف واسترجاع الاموال المهربة فقط لضمان تسديد الودائع، يعتبران عنصرين غير كافيين، وقد يكونان قاصرين بنسبة كبيرة عن التعويض على كبار المودعين، ولا شيء قد يمنع الانزلاق نحو توسيع عملية رسملته من مصادر عامة أخرى، تحت ضغط الضرورة والاستنسابية».
التمويه
في ظل تنامي النقمة من الداخل على استعمال الملك العام للتعويض على المودعين، ورفض هذه الفكرة من صندوق النقد الدولي، لانها تعرض الامن الاجتماعي والقدرة على خدمة الدين للخطر، وجدت الحكومة الفتوى. حيث نصت الخطة على أنه «بعد منح عقود إدارة أصول الدولة للقطاع الخاص، وتنفيذ برنامج الاصلاح، ووصول الدين العام إلى مستوى أدنى، والابقاء على مستوى لائق للانفاق الاجتماعي والبنى التحتية، عندئذ يمكن الاخذ بعين الاعتبار تخصيص بعض الايرادات المستقبلية في حال تجاوزت معايير محددة لصالح صندوق استرداد الودائع. وعلى الرغم من عدالة هذا الطرح الذي «لا يقتل» المودعين و»لا يفني» أصول الدولة، فان محاذيره كثيرة. فهو لا يحدد نسبة النمو المفروضة أو الحد الذي يبدأ من بعده تحويل الفوائض إلى الصندوق. كما أن ربط التحويل بالقدرة على تأمين «المستوى اللائق للانفاق الاجتماعي، والبنى التحتية»، هو معيار نسبي. والاخطر بحسب منعم هو عدم تحديد حد زمني لهذا الصندوق، حيث أن قصور استرجاع الاموال المهربة وغير الشرعية نظراً لصعوبة مثل هذا الاجراء قد يدفع إلى رفده بمصادر أخرى لتعزيز رسملته، وهو ما قد يؤدي إلى توسّعه على حساب الصالح العام ومصلحة كل المواطنين».
التعويض على المودعين بالليرة
على الرغم من أن قوام هذه الخطة أو أساسها هو توحيد سعر الصرف، نرى استمرارها باحتسابه على معدلات مختلفة. فالودائع لغاية المئة ألف دولار يمكن ارجاعها بالليرة على سعر صرف السوق، وتلك التي حولت إلى الدولار بعد 17 تشرين الاول 2019 تدفع على أساس 8000 ليرة للدولار، وتلك الواقعة بين 100 و500 ألف دولار تدفع على اساس منصة صيرفة. وبحسب ديانا منعم يظهر من الواضح في هذه الخطة عدم وجود ما يكفي من الدولارات في النظام. وهي تحاول لذلك الموازنة بين أمرين أساسيين:
– إرجاع الاموال للمودعين الكبار ومتوسطي الحجم على أسعار صرف أقرب ما تكون للحقيقية.
– ألا تخلق تضخماً نتيجة التوسع بانفلاش الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية.
وهذا ما برز بشكل أساسي من خلال وضع سقوف لارجاع الاموال بالليرة اللبنانية ذلك لان الهاجس هو ضبط السيولة.
تذويب الودائع
السلطة التي تجيّر الغالي والنفيس للتعويض عن المودعين الكبار، تعمدت تذوب الودائع الصغيرة بالسماح للمصارف باعطائها على أسعار صرف وهمية. وهذا ما برز بشكل واضح من خلال تراجع حجم الودائع بالقطاع المصرفي من حوالى 133 مليار دولار ما قبل الازمة إلى 92.5 ملياراً حالياً.
العناوين العريضة للخطة، ولا سيما في شق الاصلاح المالي منطقية وواقعية، إلا أن المعيار الاساسي يبقى في القدرة على التنفيذ. فـ»شيطان» جنوحها نحو عشوائية خصخصة بعض المرافق العامة، وبيعها للمحظيين بأسعار واهية، وامتصاصها للثروات للتعويض عن قلة محظية من المودعين، تكمن في التفاصيل. خصوصاً إن لم يتم وضع معايير واضحة وشفافة لكل المواد التي تضمنتها الخطة. والاهم أن تترافق مع قضاء مستقل قادر على المحاسبة والملاحقة.
Views: 3