هذه شهادتي للتّاريخ على أحد أهم فُصول هذه “المسرحيّة” المُفبركة من واقع لِقاءاتي مع أبرز المُتّهمين بارتِكابها والمُفاوض الأساسي للتّسوية المُتعَلّقة بها
عبد الباري عطوان
إقدام المُخابرات الأمريكيّة على خطف المُواطن الليبي محمد سعود أبو عجيلة وتهريبه من سجنه إلى الولايات المتحدة بتُهمة تورّطه في الهُجوم على ملهى ليلي في برلين كان يتردّد عليه الجُنود الأمريكيين عام 1986، وتصنيع، وتسليم القنبلة، التي جرى زرعها في طائرة “بان أمريكان” قبيل تفجيرها فوق مُقاطعة لوكربي الأسكتلنديّة عام 1988، هذا الخطف يُعتبر أبشع أنواع القرصنة، والنّكث بالعُهود والاتّفاقات، وإعادة فتح ملف جرى إغلاقه باتّفاقٍ دوليٍّ مُوثّق في مجلس الأمن، لأسبابٍ ما زالت غامضة، ويسود اعتقادٌ بأنّها مُحاولة ابتِزازٍ جديدةٍ لليبيا لم تتّضح معالمها بعد.
السيّد أبو عجيلة الذي كان مَسؤولًا في جهاز المُخابرات الليبي زمن حُكم العقيد معمر القذافي، جرى اعتِقاله عام 2011 وإيداعه في السّجن بتحريضٍ أمريكيّ، ورفضت الحُكومات الليبيّة المُتعاقبة التي تولّت السّلطة بعد إسقاط النّظام بغارات طائرات حلف النّاتو تسليمه لِما يُشَكّله هذا التّسليم من تَعارضٍ مع الدّستور الليبي، كان من غير المُمكن اختِطافه من قلب السّجن الشّديد الحِراسة لولا تَواطُؤ حُكومة السيّد عبد الحميد الدبيبة المُنتهية ولايتها، وفي إطار صفقة مع الولايات المتحدة حسب ما قاله السيّد مصباح دومة عضو مجلس النواب، وذهب السيّد محمد محجوب المُحلّل السياسي الليبي إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أشار بإصبع الاتّهام إلى السيّدة نجلاء المنقوش وزيرة الخارجيّة بالقِيام بدورٍ في هذا التّسليم بحُكم منصبها وعلاقتها الوثيقة مع الولايات المتحدة.
قضيّة لوكربي جرى إغلاقها كُلِّيًّا في 14 أب (أغسطس) عام 2008 بعد اتّفاقٍ نهائيٍّ مع الولايات المتحدة وليبيا، تخلّت بمُقتضاه عن برامجها ومعاملها النوويّة والكيماويّة وتسليمهما ومعدّاتهما إلى أمريكا، واعترف النظام الليبي في حينها بمسؤوليّته عن الحادث ودفع 2.7 مِليار دولار تعويضات لأُسَر الضّحايا بمُعدّل 10 ملايين دولار لكُل ضحيّة، أيّ أكثر عشر مرّات من التّعويض المُتّفق عليه دوليًّا، وسلّم النظام مُذكّرة رسميّة إلى مجلس الأمن الدّولي تتضمّن هذا الاعتِراف، وكان من أبرز شُروط التّسوية النهائيّة عدم التعرّض الأمريكي للنظام الليبي أو رُموزه، وخاصَّةً العقيد القذافي، ولكن بعد أن اطمأنّت القيادة الأمريكيّة في حينها إلى تفكيك المعامل النوويّة والكيماويّة والبيولوجيّة الليبيّة، ونقلها إلى الولايات المتحدة، نكثَتْ هذه القيادة الأمريكيّة بالوعود ومزّقت الاتّفاق وأرسلت طائرات حِلف الناتو لتدمير ليبيا وإسقاط نظامها وقتل العقيد القذافي وسحل جُثمانه، والاعتِداء عليه جنسيًّا، والتّمثيل بجُثّته ودفنه في مكانٍ مجهول.
كُلّ الدّلائل تُشير إلى أن مجزرة لوكربي كانت “مسرحيّة” أمريكيّة مُفبركة لإسقاط النظام الليبي بعد تجريده من أسلحة الدّمار الشّامل التي كانت في حوزته، بفرض الحِصار الخانِق، والحظْر الجوّي لتركيعه، ومن ثمّ الإجهاز عليه، فالصّناعي الألماني الذي ادّعى أنّه باعَ المُتفجّرات لليبيين تراجع عن شهادته، واعترف صاحب متجر الملابس في مالطا الذي زعم أن عبد الباسط المقرحي أحد المُتّهمين “المُدانين” اشتَرى الملابس التي تمّ العُثور عليها في الحقيبة القنبلة، أقرّ هو الآخَر من مكانه الجديد في أستراليا من تلقّي عدّة ملايين من الدّولارات كرَشْوةٍ مُقابل التّعاون مع المُخابرات وجِهات التّحقيق الأمريكيّة.
للتّاريخ أقول أنّني كُنت، وما زِلت، شاهدًا على كذبِ هذه الادّعاءات الأمريكيّة بوقوف نظام العقيد القذافي خلف تفجير طائرة لوكربي، وأُعَزّز شهادتي بوثيقتين أو روايتين عمليّتين:
-
الأولى: عندما اتّصل بي عبد الباسط المقرحي المُتّهم الأوّل بالتّفجير هاتفيًّا قبل بضعة أسابيع من الإفراج عنه في أب (أغسطس) عام 2009 من زنزانته التي جرى بناؤها له خصّيصًا داخِل سجن بارليني بمدينة غلاسكو الأسكتلنديّة، وطلب لِقائي لأمْرٍ مُهِمٍّ جدًّا، وذهبت إليه بصُحبة مُحاميه الجزائري لزيارته في سجنه، وقد تكرّم مُدير السّجن الذي تعرّف عليّ من ظُهوري المُكثّف تلك الأيّام على شاشات التّلفزة البريطانيّة، تكرّم بإعطائنا غُرفة الاجتِماعات في مكتبه الخاص، لإجراء اللّقاء الذي استَمرّ ثلاث ساعات، وقد أكّد لي السيّد المقراحي، وبعد أن انفجر في موجةِ بُكاءٍ حادّةٍ جدًّا لم أرَ مِثلها في حياتي من قبل، أنّه ويقولها للتّاريخ، لم يكن له أيّ دور في تفجير لوكربي وأنه لو فعلها فِعلًا، لخرج على رؤوس الأشهاد واعتَرف، وقال إن سرطان البروستات انتَشَر في جسده وإن الأطبّاء أعطوه ثلاثة أشهر فقط للبقاء على قيد الحياة، وليس هُناك ما يخشاه أو يخسره.
-
الثانية: التقيت بالصّديق عبد الرحمن شلقم وزير الخارجيّة الليبي السّابق وزميل الدّراسة في فندق “الدورشستر” في لندن، وكان هو مُهندس التّسوية في جريمة لوكربي والمُفاوض المَسؤول مع الإدارة الأمريكيّة في آب (أغسطس) عام 2003، وأكّد لي أن ليبيا لم تكن خلف انفِجار لوكربي على الإطلاق، فسألته: لماذا تحمّلتم المسؤوليّة ودفعتم 2.7 مِليار دولار كتعويضاتٍ لضحايا جريمة لم ترتكبونها؟ فأجاب: “نحن فعلنا ذلك لشِراء أمْن واستِقرار ليبيا، ورفع الحِصار عنها”، وقال “إن دفع التّعويضات حكمة، وشجاعة، وخدمة للمصالح الوطنيّة العُليا”.
ما نُريد أن نقوله إن خطف السيّد أبو عجيلة المريمي من سجنه في ليبيا، ونقله إلى الولايات المتحدة، ليس نكثًا للعُهود والاتّفاقات، وهذا علي أيّ حال ليس أمْرًا جديدًا، أو مُفاجئًا بالنّسبة للإدارات الأمريكيّة وأجهزتها، وإنّما أيضًا أبشع أنواع الابتِزاز والاستِكبار والقرصنة والاحتِقار للعرب والمُسلمين جميعًا، حُلفاء كانوا أو أعداء، ومن المُؤسف أن هُناك من يثق بهم، ويتَحالف معهم، ويُصدّقهم في عالمنا العربي والإسلامي.
الولايات المتحدة غزت العِراق وليبيا ودمّرتهما، وأسقطت نظاميهما، بعد أن تأكّدت من تجريدهما من أسلحةِ الدّمار الشّامل في حوزتهما التي كانا يُريدانها “درع حِماية” من غدرها وطعناتها المسمومة في الظّهر، وها هي تستمرّ في حَلْبِ ليبيا وتعزيز خططها في تحويلها إلى دولةٍ فاشلةٍ تعمّها الفوضى والصّراعات والانقِسامات الداخليّة لأكثر من عشر سنوات مُنذ وعودها بتحويلها إلى جنّة للديمقراطيّة والرّخاء والاستِقرار واحتِرام حُقوق الإنسان.
رَحِمَ اللُه كُلّ شُهداء ليبيا الشّقيقة الذين دافعوا عن حُريّتها وسِيادتها الوطنيّة، ووحدتها الترابيّة، وتصدّوا برُجولةٍ وشرفٍ للمُؤامرات الأمريكيّة والأوروبيّة، وحافظوا على هُويّتها العربيّة والإسلاميّة.
Views: 6