لم يكن في ذهن مؤسسي الجمهورية اللبنانية، مطلع القرن الماضي، غير الآمال والرؤى الوردية لمستقبل هذا الوطن الموسوم بالجمال والبحبوحة ورغد العيش. لهذا جهد بناةُ الدولة، وواضعو حجر الأساس للبنيان الاقتصادي والنقدي والمالي فيها، أن يعززوا هياكل الاقتصاد بأدوات مالية ومصرفية تحمي مدخرات الناس ومداخيلهم، فكانت المصارف درّة الاقتصاد، وكانت الليرة الإبنة المدللة للمصرف المركزي، ولأسواق المال العربية، والدولية، وفخرا لحامليها، وللمتعاملين بها، والأهم من كل ذلك، ملاذا آمنا للإدخار والإستثمار، والتعاقد والتعامل التجاري.
“شرشحوها”… لسان حال الحالمين بأمسٍ فقدوه، وباتت العملة المهزومة المتروكة المنبوذة من التعامل بها إلا عند الضرورة وما تفرضه الظروف وما تبقّى من أجور ورواتب يخجل قابضوها من تدنّي قيمتها.
لكل عملة وطنية في أي بلد 4 أدوار تقليدية هي: (1) أداة للتداول، أي إجراء التبادلات التجارية وعمليات التسوق بالعملة الوطنية، (2) وحدة محاسبة، أي اعتماد العملة الوطنية للأغراض المحاسبية، (3) عملة ادخار، أي إقدام المودعين والمستثمرين على الادخار بالعملة الوطنية، (4) أداة إقراض، أي إقدام المقرضين على إعطاء قروض بالعملة الوطنية. وعليه، فإن الليرة اللبنانية فقدت دورها كوحدة محاسبة لأن تدهور سعر الصرف جعل قراءة البيانات المالية بالعملة المحلية تفقد صدقيتها. وفقدت الليرة دورها كعملة ادخار مع بلوغ نسبة دولرة الودائع حدود 80% نتيجة التحويلات من الليرة إلى الدولار وانعدام الثقة بالعملة الوطنية. كما فقدت الليرة دورها كأداة إقراض لأن المصارف امتنعت عن إعطاء قروض بالليرة اللبنانية في ظل سوق قطع متدهور باطّراد، لأن المقرض يخسر والمقترض يربح من تردّي سعر الصرف. في حين أن آخر وظيفة متبقّية، أي أداة للتبادل، بدأت تُحتضر وهي في مرحلة الموت السريري مع تسعير معظم السلع بالدولار الأميركي. وفي حال فقدت الليرة بشكل تام دورها كأداة للتبادل، وهو أمر متوقع مع استمرار التقلبية اللافتة في سعر الصرف، نكون قد دخلنا فعلاً في المحظور، أي في مربّع الدولرة الشاملة.
من هنا، يشير الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو، إلى أن عددا من الدول قد اتجه فعلا الى اعتماد الدولرة الشاملة، خصوصاً الدول الناشئة التي تهدف إلى كبح جماح تضخم الأسعار، على اعتبار أن الدولرة تعدّ أداة لتوحيد أسعار السلع والخدمات وتثبيتها لمكافحة التضخم المفرط في الأسعار التي عادة ما تشهد تقلبات وارتفاعات ملحوظة نتيجة تدهور سعر الصرف عندما تُسعّر بالليرة اللبنانية، شرط تفعيل الرقابة على التسعير. أضف إلى ذلك، ان الدولرة الشاملة تُعدّ أداة لاستبعاد عوامل المضاربة على العملة الوطنية وعلى أسواق المال، فتصبح الاقتصادات المدولرة أكثر شفافية، شرط تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي ومحاربة المحتكرين والمهربين والمضاربين. كما أنها أداة لضبط حركة خروج الأموال من البلاد ولتسهيل عملية الاندماج في الأسواق العالمية، شرط تعزيز عامل الثقة بمقوّمات البلد وسياساته الاقتصادية والنقدية.
لكن في المقابل، يسلط قانصو الضوء على مخاطر الدولرة الشاملة وسلبياتها، خصوصا في غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي والشفافية والثقة في مقوّمات الاقتصاد الوطني في وقت تفتقد الدولة مصادر دخل تسمح بتدفق العملة الصعبة إلى خزينتها، كما هي الحال في لبنان، ما يعني عدم قدرة الدولة على سداد رواتب موظفي القطاع العام بالدولار، وتاليا إفقار ما لا يقل عن 400 ألف موظف وعوائلهم. من جهة أخرى، ومع غياب مصادر الدخل بالعملة الخضراء الكافية لتمويل حاجات الدولة والاقتصاد بشكل عام، يرتفع الطلب على الدولار ويزيد سعره ليتفاقم معه انهيار الليرة، ما يعني تداعيات كارثية على المواطنين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة والذين يدفعون بالليرة اللبنانية على سعر صرف السوق، ناهيك عن فقدان الدولة خيار طبع عملتها الوطنية وما يتضمّنه ذلك من فقدان رمز أساسي للسيادة الوطنية. ثم إن الدولرة الشاملة تفقد الدولة تأثيرها المباشر على المسار الاقتصادي الداخلي، خصوصا على مستوى السياسة النقدية وسياسات أسواق صرف العملات. كما يفقد المصرف المركزي مع الدولرة الشاملة قدرته على أن يكون الملاذ الأخير للسوق والمصارف، وتاليا قد يكون عاجزا عن تمويل أو إمداد المصارف بالسيولة في ظروف هروب الأموال.
“الدكاكين” الى اندثار!
توازياً، يؤكد قانصو أنه “مع ضعف الرقابة لا بل مع غيابها في لبنان على نحو شبه مطلق، لا توجد ضمانة فعلية لتسعير عادل بالدولار، ولا ضمانة لعدم تلاعب التاجر بالأسعار الأساسية للسلع المستوردة. أضف ان الدولرة الشاملة قد تقضي على عدد كبير من القطاعات في البلاد ومنها القطاع الزراعي والصناعي، إذ تشكل عائقاً أمام تصدير المنتجات الزراعية والصناعية مع ارتفاع أسعار هذه المنتجات التي ستخرج بالتالي من قائمة المواد المنافسة، ناهيك عن فقدان عامل الجذب المتمثل بتوافد المغتربين والسياح إلى لبنان على اعتباره بلداً جاذباً لهم مع تدهور سعر الصرف. كما أن الدولرة قد تساهم في إقفال أبواب عدد كبير من الشركات الصغيرة كونها غير قادرة على تسديد مدفوعاتها بالدولار، ومنها مثلا أكثر من 23 ألف “دكانة” مقابل متاجر التجزئة كالسوبرماركت التي قد تتمكن من الصمود”.
ويلفت قانصو إلى أن “التفلت السائد في سعر الصرف نتيجة ما نمر به من أزمات متراكمة، كان له تأثير لافت على القدرة الشرائية لدى المواطنين وعلى نسب الفقر في البلاد، وبالتالي في غياب أي استقرار اقتصادي وسياسي وفي ظل انحلال شبه تام لمؤسسات الدولة، فإن الدولرة الشاملة قد تفاقم نسب الفقر في لبنان والذي أصبح يطاول أكثر من 80% من مجموع السكان، مع الإشارة إلى أن نحو مليون و250 ألف عائلة في لبنان تعيش في فقر، منها ما نسبته 70% يتأثرون بالشق الغذائي، في حين يعيش 40% منهم في فقر مدقع، أي أن مدخول تلك العائلات في اليوم أقل من دولارين وفق التصنيفات الدولية”.
Views: 5