وكيف استفاد أردوغان من أخطاء المُعارضة ورئيسها وكادت أن تضمن فوزه في الجولة الأولى؟ ولماذا قد يكون الأسبوعان القادمان الأصعب والأكثر خُطورةً علي تركيا وتجربتها الديمقراطيّة؟ وما هو السّيناريو المُرعب الذي نخشاه؟
عبد الباري عطوان
نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التركيّة رجّحت كفّة الاستقرار الذي يُمثّله الرئيس رجب طيّب أردوغان وتحالفه على كفّة التغيير التي يتزعّمها تحالف المُعارضة بقيادة كمال كليتشدار أوغلو، مع تسليمنا بأنّ الفارق لم يَزِد عن خمس نقاط بين الطّرفين، ونقطة واحدة للحسم بالضّربة القاضية.
صحيح أن الرئيس أردوغان الذي حصل تحالفه على الأغلبيّة البرلمانيّة وفاز بـ321 مِقعدًا من مجموع 600 مِقعد لم يحسم المعركة في الجولة الأولى وبأقل من نقطةٍ واحدة، ولكنّه أثبت للأعداء، وما أكثرهم، أنه سياسيٌّ مُحنّك، يتمتّع بقُدرةٍ عاليةٍ على المُناورة، واستخدم كُل أوراق القوّة المُتاحة لجذب النّاخبين، وهو الذي خاض 10 انتخابات وطنيّة على مدى عشرين عامًا فاز فيها جميعًا، الأمر الذي قد يجعله في موقعٍ أفضل للفوز في الجولةِ الأولى من الانتخابات.
هُناك عدّة أسباب ساهمت بدورٍ في خسارة تحالف المُعارضة بقيادة كليتشدار أوغلو الجولة الأولى وإن بفارقٍ ضئيل:
-
الأوّل: تمسّك رئيسها كليتشدار بالترشّح كزعيمٍ للمُعارضة لمُنافسة أردوغان على مِقعد الرّئاسة وهو المُتقدّم في السّن (74 عامًا) ولم يَفُز في أيّ انتخاباتٍ سابقةٍ خاضها ضدّ حزب العدالة والتنمية.
-
الثاني: ارتكابه خطأً مُزدوجًا (أيّ كليتشدار) عندما أعلن أنه “علويّ” المذهب، ويعود أصل عائلته إلى قبيلة قريش في مكّة، للتّأكيد على “علمانيّته”، والخطأ هُنا يكمن في “نفسيّة” الشّعب التركي، وتركيبته القوميّة، فنسبة كبيرة من هذا الشّعب لا يكنّ الكثير من الودّ للعرب، الذين انخرطت قِيادتهم (الشّريف حسين في ثورةٍ عربيّة) إلى جانبِ الإنكليز والفرنسيين للإطاحة بالخِلافة العُثمانيّة أثناء الحرب العالميّة الأولى، مُضافًا إلى ذلك أن الغالبيّة العُظمى من الشّعب التركي “سُنيّة” المذهب، مع تسليمنا بأنّ نوايا السيّد كليتشدار طيّبة ورافضة للمذهبيّة والتّفرقة العِرقيّة.
-
الثالث: وقوف الولايات المتحدة ومُعظم الدّول الغربيّة في خندق العداء للرئيس أردوغان، لإدارة الظّهر لهم، ورفضه إملاءاتهم، وإقامته علاقات تحالفيّة قويّة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومع الجار الإيراني أيضًا.
-
الرابع: رفض مطالب حُلفائه الخمسة بالتنحّي عن القيادة، وترشيح أكرم إمام أوغلو عُمدة مدينة إسطنبول الذي هزم مُرشّح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلديّة الأخيرة، بسبب شبابه (عُمره 53) وامتلاكه قُدرات إداريّة عالية، وتمتّعه بقُبولٍ كبير لدى الشّباب، وهذا ما يفتقده رئيسه كليتشدار.
ذِكْرنا لأخطاء السيّد كليتشدار أوغلو لا يعني أن الرئيس أردوغان مُنزّهًا، فقد ارتكب خطايا قد يَصعُب غُفرانها عندما زجّ بلاده في حُروبٍ أمريكيّة في سورية وليبيا، ودخل في عداواتٍ مع مُعظم الدّول العربيّة بتدخّله في شُؤونها بدعمه للمُعارضات والإسلام السّياسي، وإن كان قد تراجع في الأعوام القليلة الماضية، وحاول العودة إلى سياسة “صِفْر مشاكل” مع الجيران، والأهم من ذلك أنه بالغ في تطبيعه للعلاقات مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي.
شخصيّتان يُمكن أن تلعبا دورًا كبيرًا في تحديد هُويّة الحِصان الفائز في الجولة الثانية من الانتِخابات التركيّة لباعها الطّويل وأوراقها القويّة في أبرز قضيّتين تتصدّران أولويّات الناخب التركي إلى جانب الاقتصاد:
-
الأوّل: سنان أوغان المُرشّح الذي احتلّ المركز الثالث في الجولة الأولى، ويتزعّم حزب “الأجداد” القومي اليميني بنسبة 5.2 بالمئة من الأصوات.
-
الثاني: الرئيس السوري بشار الأسد الذي يملك ورقة اللّاجئين السوريين أحد أهم القضايا الانتخابيّة الرئيسيّة وأبرز مفاتيح حلّها، وتقديم السّلم للرئيس التركي للنّزول عن شجرة التورّط في إرسال قوّات وإقامة قواعد عسكريّة في سورية والعِراق.
سنان أوغان وأنصاره يُمثّل بيضة القبّان في انتخابات الجولة الثانية، أو صانع المُلوك، وهو شخصٌ بارعٌ في فُنون المُساومة، واستِعداده للانحِياز إلى أردوغان أو خصمه كليتشدار، إذا حصل على الثّمن الأعلى في مزادِ “الابتزاز السياسيّ” ربّما يُحدّد في النهاية هُويّة الرئيس القادم لتركيا.
لا نستبعد وجود صفقة روسيّة إيرانيّة مع الرئيس أردوغان عُنوانها الأبرز ترتيب لقاء قمّة بينه وبين الرئيس السوري بشار الأسد في موسكو قبيل الجولة الثانية من الانتخابات تقوم على أساس تعهّد الرئيس أردوغان بسحب جميع قوّاته من الأراضي السوريّة مُقابل تعاون الرئيس الأسد وحُكومته في تسهيل إعادة أربعة ملايين لاجئ سوري إلى بلادهم ضمن برنامج زمني مُتّفق عليه، وإعادة إحياء اتّفاق “أضنة” عام 1998 الأمني الذي يُحقّق الحِماية والأمن لحُدود البلدين بضماناتٍ روسيّة.
ما فهمته من خلال لقائي مع المسؤولين السوريين أثناء زيارتي قبل أيّامٍ للعاصمة دِمشق، أن روسيا وإيران لا يثقان بالمُعارضة التركيّة وتوجّهاتها الأمريكيّة، وتُفضّلان فوز الرئيس أردوغان وبقائه في السّلطة خاصَّةً في ظِل تصاعد الحرب الأوكرانيّة، ولعلّ عقد اجتماع القمّة بين الأسد وأردوغان في أسرعِ وقتٍ، وقبل بدء الجولة الثانية من الانتخابات، بات أكثر أهميّةً وأكثر إلحاحًا، خاصَّةً بعد سلسلة اللّقاءات الرباعيّة (تركيا، سورية، روسيا وإيران) بين وزراء الدّفاع والخارجيّة وقادة الأجهزة الأمنيّة في الدّول المذكورة آنفًا التي من المُفترض أن تُمهّد للِقاء القمّة التاريخي.
جولة الانتخابات التركيّة الثانية التي تُجسّد صُمود الديمقراطيّة، وتعكس جُذورها العميقة في البيئة الشعبيّة التركيّة، حيث بلغت نسبة المُشاركة في التّصويت أكثر من 93.6 بالمئة وهي الأعلى في العالم، ستكون الأكثر إثارةً والأكثر خُطورةً في الوقتِ نفسه.
إنها معركة كسْر عظم بين أكبر مُتنافسين على السّلطة في تركيا، والسُّؤال الذي يجعل الكثيرين يضعون أياديهم على قُلوبهم هو ردّة الفعل التي ستَحدُث بعد إعلان نتائج الجولة الثانية والحاسمة، فهل سيقبل المهزوم فيها بالهزيمة، ويحترم نتائج صناديق الاقتراع والإرادة الشعبيّة، وسيُسلّم السّلطة بهُدوءٍ للخصم في حالة الرئيس أردوغان، أو يُشكّك بالنّتائج، ويُلوّح بسيف التّزوير، ويدفع أنصاره إلى الشّوارع في حالةِ تحالفِ المُعارضة؟ وهل هُناك “مُؤامرة” تقف خلفها جهات خارجيّة تُريد إحداث حالة من الفوضى تُوفّر الذّريعة للجيش الذي تدخّل أربع مرّات للاستِيلاء على السّلطة، وإجهاض الديمقراطيّة؟
نترك الإجابة للأيّام المُقبلة التي ستكون حافلةً بالإثارة على كُلّ الأصعدة، التركيّة، والإقليميّة، والعالميّة، فتركيا لاعبٌ أساسيٌّ في المِنطقة والعالم، وبوّابة الغرب إلى الشّرق، وبوّابة الشّرق إلى الغرب، وهُناك من لا يُريد الاستِقرار والأمان لها في هذا الوقت الذي يقف فيه العالم على أبوابِ حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ، وربّما نوويّةٍ، وكُل الاحتِمالات واردة.
Views: 3