انتِصارِ روسيا واقتِراب الحرب النوويّة؟ ولماذا تتصاعد الأصوات المُعارضة لهذه الخطوة داخِل أمريكا وفي أوروبا؟ وكيف دفع العِراقيّون وأطفالهم ثمنًا باهظًا من استِهدافهم بهذه القنابل المُحرّمة دوليًّا؟ وما هي السّيناريوهات المُتوقّعة؟
عبد الباري عطوان
قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن غير المُفاجئ، بإرسال قنابل عُنقوديّة مُحرّمة دوليًّا بل وأمريكيًّا، إلى أوكرانيا، لخُطورتها على المدنيين، والأطفال تحديدًا، يعكس فشلًا ذريعًا للهُجوم الأوكراني المُضاد، وتفاقم حالة اليأس الأمريكيّة بإلحاقِ هزيمةٍ بروسيا، وإسقاط نظامها، وتنفيذ مُخطّطات تفتيتها في المُستقبل المنظور.
الرئيس بايدن اعترف رسميًّا مساء أمس بفشل هذا الهُجوم الاوكراني المُضاد، وبطريقٍ غير مُباشر بتفوّق الجيش الروسي في ميادين القتال في حديثٍ بالصّوت والصّورة لمحطّة “سي إن إن”، وقال إنه أقدم على تزويد أوكرانيا بهذه القنابل وبعد تردّدٍ طويل، بسبب خُطورتها على المدنيين خاصّةً، وذلك بسبب نقص ذخائر الجيش الأوكراني، و”تعثّر” هذا الهُجوم المُضاد.
ad
***
القنابل العُنقوديّة هذه حظرتها، وإنتاجها، واستخدامها مُعاهدة أوسلو المُوقّعة عام 2008 ووقّعت عليها 123 دولة (ليس من بينها أمريكا وإسرائيل وروسيا وأوكرانيا) تحتوي على عناقيد من القنابل الصّغيرة، وتنفتح في الهواء فوق المناطق المُستهدفة، وتُلقى هذه القنابل التي لا ينفجر إلّا 97 بالمِئة منها في حينها، ويكون بعضها على شكلِ لعب أطفال، لنشر حممها على مناطقٍ واسعة، ويُمكن أن تُدفن في التّربة لسنواتٍ بعد انتِهاء الحرب، وأكثر من 70 بالمئة من ضحاياها من الأطفال، حسب الدّراسات الأمميّة، ويُمكن إطلاقها من الطّائرات، وبالمدفعيّة، أو بالصّواريخ، ولا تُميّز بين العسكريين والمدنيين، وتقتل عشرات الآلاف، وتُعرقل مشاريع التنمية الزراعيّة والصناعيّة.
الرئيس بايدن برّر إقدامه على هذه الخطوة التي تعني إشعال فتيل حرب إبادة جماعيّة، بأنّ ذخائر الأوكرانيين آخذةٌ في النّفاذ، وتحقيق القوّات الروسيّة العديد من الانتِصارات في ميادين القتال الأمر الذي “يفضح” كُل فُصول ومُسلسلات الحرب الدعائيّة الغربيّة التي تحدّثت وعلى مدى 500 يومٍ من الحرب عن هزيمة الروس وجيشهم وحُدوث صِراعات داخله، وانهِيار الاقتِصاد الروسي، وتحقيق الجيش الأوكراني انتصارات على عدّة جبَهات.
اليوم ينكشف الطّابق، وتظهر الحقائق بشَكلٍ جليٍّ وللمرّة الأولى، وبِما يُصيب الإعلاميين الأمريكيّ والغربيّ في مقتل، وهو الإعلام الذي تباهى دائمًا ومُنذ بداية الحرب بمصداقيّته وبمهنيّته، ومن خِلال حشد العديد من “الخُبراء” للظّهور على الشّاشات ومواقع التواصل الاجتماعي لبثّ حمَلات التّضليل المشبوهة.
الجيش الأمريكي الذي يُوصف بالانضِباط الأخلاقي والإنساني، والالتِزام بالمُعاهدات الدوليّة المُتعلّقة بحِماية المدنيين، استَخدم هذه القنابل العُنقوديّة بكثافةٍ أثناء غزوه للعِراق عام 2003، جنبًا إلى جنب مع قذائف اليورانيوم المنضب، الأمر الذي أدّى إلى استِشهاد أكثر من مِليون مدني عِراقي، حسب تقريرٍ مُوثّقٍ لمجلّة “لانسيت” الطبيّة البريطانيّة الأكثر مِصداقيّةً في العالم أثناء الحرب، ومِليون قبلها أثناء الحِصار، وما زالت الوفيّات مُستمرّة في أوساط الأشقّاء العِراقيين الأبرياء وأطفالهم، من جرّاء الإشعاعات النوويّة، أو انفِجار بقايا القنابل العُنقوديّة.
السّيناتور روبرت كينيدي جونيور، المُرشّح للرئاسة في الانتِخابات القادمة، الذي يتّسم بالجُرأة وبالشّجاعة، كان أوّل من علّق الجرس في أمريكا، وأصدر بيانًا فورًا يُعارض هذه الخطوة، أيّ تزويد أوكرانيا بهذه القنابل، ولم يتردّد في وصف قرار الرئيس بايدن بالطّائش، وسيُؤدّي إلى تصعيدِ الصّراع، حتى أن دُوَلًا أوروبيّةً حليفةً لواشنطن مِثل ألمانيا وإسبانيا والنمسا وكذلك دُول أُخرى أعضاء في حِلف النّاتو من المُوقّعة على مُعاهدة أوسلو لحظر القنابل العُنقوديّة اتّخذت الموقف نفسه، وعارضت هذا القرار المُتهوّر للرئيس بايدن.
***
خِتامًا نقول إن إرسال إدارة بايدن لهذا النّوع من القنابل العُنقوديّة في مُحاولةٍ يائسةٍ لتجنّب الهزيمة في الحرب الأوكرانيّة التي خطّطت لها بعنايةٍ، وأوقعت روسيا مُكرَهةً في مِصيَدتها وجرّها إلى شنّ هُجومٍ استباقيّ، هذه الخطوة تكشف عن المأزق الأخلاقي والسّياسي الذي تعيشه الولايات المتحدة هذه الأيّام ولم يُفقدها صوابها فقط، وإنّما دفعها إلى الانحِدار وبسُرعةٍ نحو خطوةٍ انتحاريّةٍ ربّما تُؤدّي إلى تدمير نفسها، والعالم بأسْره، فرئيسها هَرِمٌ، فاقدٌ الأهليّة، وباتَ أسيرًا للوبيّات السّلاح وتعطّشها للحُروب.
أمريكا انهزمت في أوكرانيا، وفي الشّرق الأوسط، وقريبًا في أوروبا، وتقف حاليًّا على حافّة خسارة موقعها كقُوّةٍ عُظمى وحيدة تُسيطر على سقف العالم، وتتحكّم بشُؤونه لمصلحة القُوّتين العُظميين روسيا والصين، ولهذا باتت مِثل النّمر الجريح أكثر خُطورةً، وتضرب في جميع الاتّجاهات، ولهذا يجب على حُلفائها الأوروبيين أوّلًا، والشّعب الأمريكي ثانيًا، وكُل دول العالم ثالثًا، أن يتحرّكوا بسُرعةٍ لمنعها من التهوّر ومُحاولة تجنّبها للهزيمة بتدمير العالم، باستِخدام ترسانتها النوويّة (خمسة آلاف رأس نووي) على غِرار ما حدث في هيروشيما ونغازاكي اليابانيّتين.
اليوم قنابل عُنقوديّة لأوكرانيا، وغدًا أسلحةٌ كيماويّةٌ وبيولوجيّة، وبعد غَدٍ رؤوسٌ نوويّة مع صواريخ باليستيّة لحملها وإطلاقها.. نعم الحرب العالميّة الثالثة بدأت، وأشعلت أمريكا فتيلها، والآن تدفع بها للانحِدار إلى حربٍ نوويّةٍ إذا لم يتم منعها وبأقصَى سُرعَةٍ.. والأيّام بيننا
Views: 4