تسقط وجهات النظر المتعددة في السياسة والاقتصاد أمام حقيقة الارقام خصوصا المدقَّق منها في منبعه الاصلي والموثّق بشفافية. فالارقام عموما تتكلم لغة واحدة جامدة، صراحتها فجة لا تكذب ولا تجمّل، ولا تقبل أسرها في خانة وجهات النظر، حيث حسابات السياسة والفساد والمنافع الشخصية وصرف النفوذ. مناسبة ما تقدم هو “فظاعة” ما حصلت عليه “النهار” من ارقام لمجموع اصدارات “اليوروبوندز” التي اصدرتها وزارة المال بين الأعوام 1994 و2019 تاريخ توقف الدولة عن سداد ما عليها من مستحقات، اضافة الى الفوائد التي ترتبت عليها خلال هذه الفترة. الصاعق في الارقام بعد جمعها وتمحيصها جيدا، هو أنه طوال 35 عاما متتالية لم يستفد اللبنانيون من هذه الاصدارات التي بلغت حصيلتها النهائية نحو 72 مليار دولار، بمشاريع تنموية وتطويرية، اللهم إلا بنحو 5 مليارات دولار فقط تم استثمارها بين الاعوام 1994 و2000 لتطوير مرافق عدة منها مطار بيروت الدولي وبناء معامل كهرباء وبعض البنى التحتية، فيما خصص بقية المبلغ (67 مليار دولار) لتسديد الفوائد المستحقة مع الدين الاصلي.
هذه الارقام حملتها “النهار” الى أكثر من موقع معني في الدولة، وبعض الخبراء الاقتصاديين، فكانت الصدمة القاسم المشترك لردة فعلهم الرافضة لتصديق ما جنته السلطة على المالية العامة، حتى أن بعضهم حسم نافيا الامر بالقول: “هذا تخريف” ومن المُحال أن الحال الى هذا الدرك، وإن كانت صدقية الارقام برأيهم لا يمكن التشكيك فيها.
ولكن الحقائق جلية في الارقام الرسمية الصادرة عن وزارة المال والخاصة بمجموع اصدارات سندات “اليوروبوندز” التي يبدو بوضوح أنها سجلت عجزا في معظم الاعوام وفائضا في أعوام أخرى. وعند جمعها والتدقيق بالحواصل يتبين حجم الهوة والفجوة الكبيرة التي أحدثتها في المالية العامة.
بدأت الدولة الاستدانة بالدولار الاميركي منذ العام 1994 واستمرت لغاية العام 2019، وذلك عبر اصدار سندات “يوروبوندز” دورية بلغ مجموعها نحو 72 مليار دولار استدانتها من المصارف ومصرف لبنان ومؤسسات دولية والمودعين، واستخدمتها لتسديد ما يستحق سنويا عليها من أصول دين “يوروبوندز” قديم مستحق والبالغة قيمته 41 مليار دولار تقريبا، فيما الجزء الآخر تم استخدامه لتسديد الفوائد المستحقة على هذه “اليوروبوندز” والبالغة قيمتها (اي الفوائد) نحو 27 مليار دولار، وتاليا فإن ما تبقى من الـ 72 مليار دولار التي جرى استخدامها لتمويل حاجات الدولة بالدولار الاميركي هي اقل من 5 مليارات دولار فقط.
في السنوات العشر الاخيرة التي سبقت الانهيار (بين 2009 و2019) استدانت الدولة عبر “اليوروبوندز” نحو 40 مليار دولار بما نسبته نحو 55% من اصدارات “اليوروبوندز” عموما، في حين بلغ مجموع الاصل والفائدة على “اليوروبوندز” المسددة من الدولة في تلك الفترة نحو 43 مليار دولار تقريبا، بما يشكل نحو 63% من مجموع ما تم تسديده من اصل وفوائد “يوروبوندز”. وفي هذا تبين الارقام بوضوح كلّي ان الدولة ومنذ العام 2009 لم تستفد بدولار واحد من اصدارات “اليوروبوندز” لتطوير الاقتصاد والبنى التحتية، بل خصصت لتسديد اصل “اليوروبوندز” والفوائد المستحقة في تلك الفترة، وهذا كان سببا اساسيا في بناء مداميك الفجوة المالية.
بلغت نفقات الدولة بالدولار الاميركي ما بين 2009 و2021 اكثر من 50 مليار دولار ذهب نصفها ثمن فيول للكهرباء ونفقات دعم للسلع والمحروقات والمستوردات الغذائية والقمح وتثبيت سعر الصرف، كل ذلك استُخدم من احتياطات مصرف لبنان الاجنبية عبر قوانين ملزمة للبنك المركزي وقرارات حكومية. واكد تقرير صندرق النقد الدولي ان اكثر من 10 مليارات دولار استُخدمت من احتياط مصرف لبنان منذ بداية الازمة (أموال المودعين) وذهبت فعليا للدعم غير المجدي الذي أقرته الحكومة في ذلك الوقت. وقد بلغ مجموع هذه النفقات في الفترة الممتدة من 2009 لغاية 2021 اكثر من 50 مليار دولار نصفها ذهب للطاقة والكهرباء.
وقدرت مصادر اقتصادية نفقات الدولة المحوّلة الى الخارج بـ 100 مليار دولار منذ العام 1994 لغاية 2021، منها اكثر من 45 مليارا كثمن فيول اويل وغاز اويل للكهرباء والبواخر (مع الفوائد). ومن اصل الـ 100 مليار دولار هذه، أمنت “اليوروبوندز” 5 مليارات دولار فقط (اي 5% من نفقات الدولة الاجمالية بالدولار الاميركي).
يُستنتج من الارقام ان نفقات الدولة اللبنانية بالدولار الاميركي التي حوّلت الى الخارج (ما يُعرف بفريش دولار حاليا) لم يتم تمويلها من “اليوروبوندز”، بل جرى تمويل جزء منها من الهبات وقروض باريس 1 و2 و3، وبعض ايرادات الدولة المتواضعة بالدولار. اما الجزء الاكبر من نفقات الدولة فتأمن من خلال استخدام احتياط مصرف لبنان من العملات الاجنبية وذلك بموجب قوانين ملزمة وقرارات حكومية لا سيما قرار دعم المحروقات والسلع وقرار تثبيت سعر الصرف الذي التزمته كل البيانات الوزارية وصادق عليه مجلس النواب.
لم تكن الدولة اللبنانية تؤمن نفقاتها بالعملة الصعبة من خلال “اليوروبوندز” وفق ما تبينه الارقام اعلاه بل من احتياط مصرف لبنان بالعملات الاجنبية لاسيما منذ العام 2009، وهي عمليا كانت تستنزف أموال المودعين عاما بعد عام واستمرت بذلك حتى بعد الانهيار عندما فرضت سياسة الدعم المشؤومة. وفي السياق سبق لمجلس شورى الدولة أن قبل المراجعة المقدمة من جمعية مصارف لبنان على خلفية قيام الدولة بمصادرة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان والتصرف بها وتملّكها ما بين 2010 و2021 من دون الإعلان عن ذلك في حينه. ويكتسب القرار الصادر عن مجلس شورى الدولة اهمية كبيرة خصوصا أنه يؤكد بطريقة غير مباشرة ان الدولة لم تكن تؤمن نفقاتها من خلال “اليوروبوندز”، بل من احتياط مصرف لبنان من العملات الاجنبية لا سيما منذ العام 2009.
وفيما لا يجوز تبرئة احد من مسؤوليته في المشاركة ببناء الفجوة المالية (الدولة اللبنانية ومصرف لبنان والمصارف)، لا يجوز ايضا اهمال ارقام اصدارات “اليوروبوندز” لأهميتها القصوى في تحديد مكامن الخلل بأداء الدولة ومصرف لبنان والمصارف، ولأهميتها ايضا في بناء رؤية واضحة لكيفية علاج الازمة المستمرة. ولكن الخبير الاقتصادي نسيب غبريل الذي استغرب تفاصيل الارقام، عاد ليؤكد أن “المشكلة هي في سوء ادارة القطاع العام وعدم انضباط المالية العامة وتسجيل عجوزات خصوصا في الاعوام الـ 11 الماضية، إذ تم صرف المال العام من دون موازنات، مع اهمال مصادر ايرادات مثل مكافحة التهرب الضريبي والجمركي وعدم تطبيق قوانين تدر ايرادات للخزينة وتفعيل الجباية وتحسين المناخ الاستثماري وبيئة الاعمال لتوسيع حجم الاقتصاد الذي سيزيد بدوره الضرائب التي تستوفيها الخزينة من الافراد والمؤسسات”. وإذ لفت الى انه “تم اللجوء مرارا وتكرارا قبل الازمة لاستخدام احتياط مصرف لبنان بسبب عدم وجود ارادة سياسية لتطبيق الاصلاحات وخفض حاجات الدولة للاستدانة ولتلقيص العجز بالموازنة”، اعتبر غبريل ان “انفلاش حجم القطاع العام وادارة القطاعات التي تديرها الدولة وتحتكرها مثل الكهرباء والاتصالات والنقل أدى الى تراجع ايرادات الدولة وزيادة نفقاتها، عدا عن إدخال نحو 32 ألف شخص الى القطاع العام بين عامي 2014 و2018 بحسب تقرير لديوان المحاسبة. يضاف الى كل ذلك التدخل السياسي في المؤسسات العامة ذات الطابع التجاري، وعدم تفعيل الرقابة من ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي والتفتيش المالي واستفراد الوزراء كل بوزارته، وعدم انشاء هيئات ناظمة واستمرار ارتفاع النفقات من 6 مليارت و800 مليون دولار في الـ 2006 الى 18 مليارا في عامي 2018 و2019 وعدم اصلاح قطاع الكهرباء الذي بلغت النفقات العامة عليه 45 مليار دولار، بما ادى الى اللجوء الى الاحتياط مرارا وتكرارا”. غبريل الذي أكد أن “الاستدانة إن كانت بالعملات اللبنانية أو الاجنبية كان يجب ان تترافق مع انضباط في النفقات والاصلاحات التي تم استخدمها كأداة تعطيل في المواجهات السياسية”، لم ينسَ الاشارة الى الشغور الرئاسي والحكومي “الذي ادى الى شلل المؤسسات وتاليا عدم وجود مساحة للاصلاح، فيما الخلافات السياسية ادت الى الشلل والتعطيل وعدم التركيز على زيادة الايرادات
Views: 11