يسود القلق في الشارع جرّاء ما قد يحصل نهاية هذا الشهر. مصدر القلق يكمن في الغموض غير البنّاء الذي يكتنف المشهد النقدي، سواء على مستوى خلافة حاكم مصرف لبنان، بعد تلويح نوابه بالاستقالة والانسحاب من المشهد، او لجهة المعلومات التي يجري تسريبها حول إلغاء منصة «صيرفة»، والتقديرات التي يسوقها «مجتهدون» في شأن الارتفاع الجنوني للدولار بعد الغاء المنصة.
كانت المؤشرات توحي بانتقال سَلس للقيادة من حاكم مصرف لبنان الى نائبه، وبالتعاون مع اعضاء المجلس المركزي كافة. كذلك كانت المعلومات تشير الى انّ «عهد» وسيم منصوري، بالتعاون مع اعضاء المجلس المركزي كافة، سيكون بمثابة استكمال للسياسة النقدية القائمة، ولن يحمل اية مفاجآت، طالما انّ المجلس يعتبر نفسه بمثابة هيئةٍ لتصريف الاعمال بانتظار تعيين حاكم أصيل، بعد انتخاب رئيسٍ للجمهورية، وبدء مرحلة جديدة قد يكون جرى التوافق عليها ضمن سلة متكالمة، تؤمّن مرحلة من الهدوء والاستقرار والانتظام السياسي.
هذا المناخ انقلب رأساً على عقب بعدما تبيّن ان الامور لا تمضي في الاتجاه الذي جرى ترويجه امام الرأي العام، وان اعضاء المجلس المركزي، أو بعضهم على الأقل، يرفض ان تكون المرحلة الانتقالية بانتظار تعيين حاكم أصيل، مجرد امتداد للمرحلة السابقة، وأن تكون مهام المجلس المركزي مجرد تصريف اعمال، على غرار ما تقوم به حكومة تصريف الاعمال في غياب رئيسٍ للجمهورية.
وبصرف النظر عن خلفيات «الانقلاب» الذي قام به نواب الحاكم من خلال بيانهم التهديدي بالانسحاب من المشهد، واذا ما كان منسّقاً مع جهات سياسية ام لا، ساد القلق في الشارع انطلاقاً من نقطتين:
اولاً – في حال لم يتم التوصّل الى اتفاق يُفضي الى استمرار وجود قيادة مسؤولة في المركزي، والاتجاه الى حلول معقدة، مثل تعيين حارس قضائي، كيف سيكون المشهد النقدي، وهل ستعمّ الفوضى السوق بحيث يدفع المواطن مرة جديدة فاتورة التجاذبات السياسية، ونهج تصفية الحسابات على حساب الاقتصاد والقدرات الشرائية للبنانيين؟
ثانياً – اذا ما تمّ منح القيادة البديلة برئاسة منصوري صلاحيات واسعة، ومع توسّع صلاحية المجلس المركزي، هل تُقدِم هذه القيادة على إلغاء منصة «صيرفة» للايحاء بوجود نهج جديد؟ وكيف سيتلقّف السوق خطوة من هذا النوع في ظل استمرار الفراغ في رئاسة الجمهورية، وعدم وجود حاكم أصيل في المركزي، والاستمرار في المراوحة على مستوى خطة التعافي، والشلل على مستوى إصدار التشريعات المطلوبة لتنظيم الفوضى تمهيداً للوصول الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي؟
لا شك في ان منصة «صيرفة» كما هي اليوم، ليست مثالية. وتنقصها الشفافية لمنع تسلّل الفساد والسماح للمضاربين بتحقيق ارباح غير مشروعة. والأهم انها اداة مرفوضة لأنها تستخدم اموال الناس، (ملكية خاصة) ولو بهدف تحقيق نوع من الاستقرار المرحلي في سعر صرف الليرة (مصلحة عامة). كما ان صيرفة ليست منصة تداول، بل مجرد اداة مالية في اتجاه واحد، أي ان المركزي يحتكر استخدامها في عملية شراء الدولارات من السوق، وإعادة ضخّها.
ومع ذلك، فإنّ المشكلة في إلغاء هذه المنصة بشكل مفاجئ، وفي غياب حاكم اصيل، وعدم عودة الانتظام السياسي، وفي ظل ما يتمّ تداوله حالياً من اشاعات وتقديرات بهلوانية، في شأن السقف الذي قد يبلغه سعر صرف الدولار في هذه الحالة، قد يؤدّي الى فوضى غير محسوبة النتائج. وبالتالي، هناك وسائل اخرى لمقاربة هذا الملف الحساس، وفق الاسس التالية:
اولاً – إختيار التوقيت الصحيح للانتقال الى مشهد آخر، لأن التوقيت في هذه الحالة، أهم من مضمون القرار نفسه.
ثانياً – إدخال اصلاحات على المنصّة لإضفاء المزيد من الشفافية على عملها، وخفض مستويات المضاربة والأرباح غير المشروعة.
ثالثاً – تحويلها الى منصة تداول، بحيث يمكن بيع وشراء الدولارات والليرة عبرها. وهذا التحويل يعني عملياً توحيد سعر الصرف تدريجياً.
رابعاً – تأمين تغطية سياسية واضحة لأي اجراء استثنائي، لأن قرار التدخّل لضمان حد أدنى من الاستقرار في سوق الصرف قبل الانتقال الى مشهد التعافي من خلال الاتفاق مع صندوق النقد، لا يستطيع ان يتحمّله المركزي لوحده، لأن الدولة هي المسؤولة عن اي اجراء يسمح بمزيد من تسرّب اموال المودعين المتبقية في صناديق مصرف لبنان. ويكفي ان مصرف لبنان أهدر حتى الآن، القسم الاكبر من هذه الاموال، سواء عبر سياسة الدعم، او عبر الاجراءات التي سمحت بإعادة القروض الدولارية في المصارف بالليرة، او من خلال سياسة السماح للحكومات المتعاقبة بغَرفِ الاموال من صناديقه لتغطية العجوزات السنوية في الموازنات. وحتى الاحتياطي الالزامي الذي وعد المركزي بعدم المساس به، أصبح في خبر كان، ومقابل ودائع بقيمة حوالى 92 مليار دولار، يوجد حالياً فقط حوالى 9,3 مليارات دولار، في حين انّ نسبة الـ14 % تفترض وجود حوالى 13,5 مليار دولار، أي أن هناك 4 مليارات من هذا الاحتياطي تمّ تبديدها.
في الخلاصة، من حق الناس الشعور بالقلق حيال ما قد يجري ما بعد 31 تموز، لأن المشكلة الاساسية تكمن في عدم وجود حسّ المسؤولية والضمير لدى أي مسؤول في الدولة. هنا تبدأ المشكلة، وهنا تنتهي
Views: 6