وما هي الأهداف الثلاثة التي يسعى لتَحقيقِها؟ وما هي الاستراتيجيّة الالتِفافيّة الذكيّة التي تتبنّاها الزّعامة الصينيّة حاليًّا؟ وأين موقع الحرب الأوكرانيّة من كُل هذا الحِراك؟
عبد الباري عطوان
عندما تلجأ الإدارة الأمريكيّة إلى دفاتِرها القديمة، وتُرسل هنري كيسنجر وزير خارجيّتها قبل 50 عامًا إلى بكين، فهذا يعني أمرين أساسيين: الأوّل: أن استراتيجيّتها الدبلوماسيّة في احتِواء الصين وإبعادها عن روسيا قد فشلت، والثاني: أنها بدأت تَشعُر بإرهاصاتٍ بالهزيمةِ في الحرب الأوكرانيّة التي أشعلت فتيلها، وتبحث الآن يائسةً عن مخارجٍ منها عبر دبلوماسيّة الأبواب الخلفيّة.
هنري كيسنجر الذي تجاوز المِئة عام من عُمره، لم يذهب إلى بكين دُونَ التّنسيق المُسبَق مع إدارة الرئيس جو بايدن، وربّما وبتكليفٍ مُباشرٍ منها، وفي هذا التّوقيت بالذّات حيث تُواجه العلاقات الصينيّة الأمريكيّة حالةً من التوتّر تقترب من المُواجهة العسكريّة خاصّةً في تايوان، والمُواجهة السياسيّة الاقتصاديّة على أرضيّة الحرب على الدّولار والبحث من إيجاد البديل له ونظامه الماليّ في قمّة “بريكس” الشّهر المُقبل في جنوب إفريقيا، التي ستضع خريطة طريق لإنهاء الهيمنة الأمريكيّة على مُقدّرات العالم السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة.
الدّهاء الصيني يُدرك جيّدًا جميع الحقائق السّابقة الذّكر، مثلما يُدرك أيضًا، أن الحزبين المُتنافسين على السّلطة في واشنطن ومُرشّحيهما لخوض الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة العام المُقبل، يتّفقان على العداء للصين، والتّحذير من خُطورتها كمُنافسٍ عالميٍّ لبلادهم، ولهذا قامت (الصين) بعمليّةٍ دبلوماسيّةٍ التفافيّةٍ، وفرشت السجّاد الأحمر لكيسنجر الذي حظي باستِقبال الرئيس شي جين بينغ، وكبير دبلوماسيّيه ووزير دِفاعه الذي رفض لقاء نظيره الأمريكي لويد أوستن، كما استقبلت أكبر شخصيّتين اقتصاديّتين أمريكيّتين هُما بيل غيتس، وإيلون ماسك، وهدف هذه الدبلوماسيّة الصينيّة الذكيّة الوصول إلى قادة الرّأي في أمريكا في الحقلين السياسيّ والاقتصاديّ، ومُمارسة ضُغوطٍ مُباشرةٍ على الرئيس بايدن وإدارته، ويبدو أن هذه الاستراتيجيّة الصينيّة حقّقت اختِراقًا كبيرًا في هذا المِضمار.
لنَترُك الجانِب الاقتصاديّ جانبًا، ونتجنّب الحديث عن التّبادل التجاريّ بين البلدين الذي تضاعف أكثر من مرتين ووصل إلى 140 مِليارًا عام 2022 بالمُقارنة مع عام 2018 (60 مِليارًا)، فهذه مسألة أُخرى تحتاجُ إلى مقالٍ آخر، فالسّياسة هي العمود الفقري لزيارة كيسنجر ولهذا يجب التّركيز على أهدافها التي يُمكن اختِصارها في النّقاط التالية:
-
أوّلًا: مُحاولة فك الارتباط السياسي والعسكري المُتسارع بين الصين وروسيا، وجرّ الصين إلى المُعَسكر الأمريكيّ مجددًا، ومن المعروف أن كيسنجر حذّر الرئيس الأمريكي بايدن في أوّل لقاءٍ له بعد فوزه في الانتِخابات الرئاسيّة من هذا التّقارب الصيني الروسي وأخطاره السياسيّة والعسكريّة المُحتَملة على الولايات المتحدة وزعامتها للعالم.
-
ثانيًا: البحث عن مخارجٍ دبلوماسيّةٍ سريعةٍ من الحرب في أوكرانيا التي تورّطت فيها إدارة بايدن، واللّجوء إلى الوِساطة إذا ما نجحت ستَصُبّ في الهدف الرئيسيّ وهو الحِياد الصينيّ المأمول، ولو في حُدوده الدّنيا، ففي حالِ نجاحِ هذه الخطّة، فإنّ هذا سيكون مَكسبا كبيرا لأمريكا.
-
ثالثًا: يُؤمِن كيسنجر بأنّ أيّ حلٍّ سياسيٍّ لهذه الأزمة الأوكرانيّة يتطلّب تقسيم أوكرانيا، هو الحل، على غِرار ما حدث في الحرب الكوريّة عام 1952 بإنشاء دولتين، واحدةٌ مُواليةٌ لروسيا (في الأقاليم الخمسة التي ضمّتها موسكو)، وأُخرى مُواليةٌ لأمريكا في ما تبقّى من أوكرانيا، صحيحٌ أن كيسنجر لم يُفصِح عن موقفه هذا بشَكلٍ مُباشر، ولكنّه أكّده بطريقةٍ خبيثةٍ باقتِراحه بعدم انضِمام أوكرانيا إلى حِلف “النّاتو”، أو الاتّحاد الأوروبي، وبقائها على الحِياد، وحتميّة تفهّم المطالب الجُغرافيّة والإثنيّة الروسيّة وتقديم تنازلاتٍ تُرابيّةٍ جُغرافيّة.
الرئيس بايدن يعلم جيّدًا بمواقف كيسنجر هذه، ولهذا شجّعه “مُضْطَرًّا” على زيارة بكين، وإن كانت إدارته قد استاءت من الحفاوة التي حظي بها، ولم يحظ برُبعها المسؤولون الأمريكيون الذين زاروا العاصمة الصينيّة قبل بضعة أشهر، مِثل أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة، وجانبت يلين وزيرة الخزانة، وجون كيري وزير المناخ، ولهذا ينتظر بايدن عودة كيسنجر على أحرّ من الجَمر لمعرفة رؤيته التحليليّة للموقف الصيني من الحرب الأوكرانيّة، والعلاقات الثنائيّة، والقضايا الخِلافيّة الأُخرى في تايوان وغيرها، والرّسائل الصينيّة المُباشرة وغير المُباشرة التي يحملها، وكشف جون كيربي المُتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي أمس عن هذه الرّغبة عندما أكّد أن الإدارة الأمريكيّة ستكون حريصةً على الاستِماع لِما في جُعبةِ كيسنجر من آراءٍ بعد عودته.
صحيح أنّ كيسنجر بلغ المئة عام من عُمره، وأن آخر مرّة زار الصين كوزير خارجيّة كانت قبل خمسين عامًا، ولكنّ الصّحيح أيضًا أن زيارته الحاليّة هذه قد تكون آخِر فُرصة، ليس لإصلاح العلاقات الصينيّة الأمريكيّة فقط، وإنّما أيضًا تخفيف حدّة التوتّر، وتجنّب المُواجهة مع الصين عسكريًّا على أرضيّة الخِلاف حول تايوان، والحرب الأوكرانيّة.
أمريكا تعيشُ مَأزِقًا خطيرًا مُتشعّب الجبهات هذه الأيّام، وتبحث عن مخارجٍ بأيّ طريقة، ولعلّ لُجوئها إلى كيسنجر المُغرِق في الهرم، لمُساعدتها في هذا المِضمار، هو أحد أكبر عناوين هذا المأزَق، وحالة الضّعف التي تعيشها على الصُّعُدِ كافّة.
كيسنجر لا يملك طوق النّجاة حتّى يُلقيه لإنقاذ الغريق بايدن للخُروج من هذا المأزق، ووقف الانهِيار الأمريكي المُتسارع سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، فأفكاره قديمة، والصين اليوم هي غير الصين التي زارها عام 1972، ودبلوماسيّة البينغ بونغ اندثرت، ولم تعد موجودةً على الخريطة السياسيّة، والعالم يتغيّر بسُرعةٍ، وهُناك مُعادلات جديدة تتبلور، وقِوى جديدة تصعد بسُرعةٍ، ولا يعرف كيسنجر الذي يعيش في الماضي الكثير من تفاصيلها، والحل الوحيد لبايدن أن يذهب بنفسه إلى بكين، وبعدها موسكو مُسلّمًا بالحقائق الجديدة، وباحِثًا عن نهايةٍ تُنقذ ماء الوجْه في تايوان والحرب الأوكرانيّة، تقليصًا للخسائر، وتَجَنُّبًا للهزيمةِ الكُبرى، فأمريكا لم تعد الدّولة الأعظم، والصين وروسيا هُما القُوّتان الصّاعِدتان بقُوّةٍ حاليًّا، ومرحلة الزّعامة الغربيّة للعالم على أرضيّة الحرب العالميّة الثانية ونتائجها، ولّت إلى غيرِ رجعةٍ، ونحنُ نقف على أعتابِ عالمٍ جديدٍ بمُعادلاتٍ جديدةٍ.. وقِياداتٍ جديدة.. والأيّام بيننا
Views: 17