يعيش اللبنانيون رعب تفلت سعر صرف الدولار، على خلفية “البشائر” التي يبثها خبراء اقتصاديون من جهة وبعض الطبقة السياسية من جهة أخرى وما بينهما من طارئين على الاقتصاد والسياسة.
مذ “حشر” الوقت اهل السلطة بقرب نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان آخر الجاري، وعقال الكلام والتصريحات والتنبؤات العلمية حينا، والتي “لا تركب على قوس قزح” حينا آخر، تفلتت من جميع قواعدها وعقلانيتها والحد الادنى من التحسس بمسؤولية تجاه الناس الخائفين من عودة شبح جنون الدولار أكثر واكثر مما هو الآن. ولعل ما يترجم هذا التفلت، الكلام عن “مليونية” للدولار ومعها التوقعات بانهيار شبه شبكة الامان التي ارستها الدولة عبر مضاعفة رواتب القطاع العام والمتقاعدين بضع مرات وتقويمها على سعر “صيرفة” وتأمين الايرادات اللازمة من وزارة المال لتقطيع المرحلة بما أمكن من استقرار امني واجتماعي. فمن المسؤول عن بشائر “الدولار المليوني” و”النصف مليوني” وحتى الثلاثمئة الف ليرة؟ ومن لديه المعطيات التي تؤدي الى كل هذه الفرضيات والتوقعات؟
يبدو ان كلام نواب الحاكم عن تحرير سعر الصرف بدءا من أول آب المقبل، رغم اقتناعهم بأن هذا الاجراء سيحرك الدولار صعودا، والحكم الذي أصدروه بإعدام صيرفة كونها “تستنزف الاحتياط وقائمة على لعبة “الكوميسيونات” هو الفتيل الذي أطلق العنان لكل هذه التكهنات. لكن واقع الامور يفيد بأن ربط الغاء صيرفة بإنشاء منصة أخرى بديلة أو معدلة عنها، يستدعي أشهرا لتحقيقه، ناهيك عن أن نواب الحاكم أقروا برغبتهم في استمرار تمويل الدولة ودفع رواتب موظفيها، ولهذا طالبوا النواب بتشريع يسمح لهم بصرف 200 مليون دولار لمدة 6 أشهر قابلة للتجديد. وبغضّ النظر عن خطورة صرف هذه المبالغ الضخمة من الاحتياط الالزامي، فإن ضخ مثل هذا المبلغ شهريا في السوق كفيل باستمرار لجم الدولار دون المئة ألف ليرة كما يحصل حاليا.
في السياق، لا يختلف اثنان على أن الارباك والخوف و”رهاب” الجماهير الساخطة أمام مبنى مصرف لبنان في الحمراء يصيب نواب الحاكم ويقيد اندفاعهم المطلوب وطنيا لتحمّل أخطر مسؤولية في الجمهورية اللبنانية في الوقت الحاضر. لكن المؤسف أن الاجواء التشاؤمية التي يعيشها هؤلاء تحولت الى خوف معدٍ تفشّى بسرعة بين اللبنانيين وأنتج حالة من الترقب المرير لمآل مصير الدولار والليرة بعد انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة ومعهما مصير الاستقرار النسبي الذي ساد في الاشهر الثلاثة الاخيرة.
وإذا كان ثمة اجماع على أن الخطة التي قدمها نواب الحاكم هي نسخة طبق الاصل عن خطة الحكومة ونائب رئيس الحكومة سعادة الشامي وترجمة لما يطلبه صندوق النقد الدولي من لبنان، إلا أن آخرين يذهبون أبعد من ذلك، إذ تؤكد مصادر متابعة لـ”النهار” أن “ثمة أياديَ خفية تتعمد الانهيار المالي في لبنان، مستندة في ذلك الى تقرير دولي تحدث عن أن ثمة رابطا بين القرارات الدولية المتعلقة ببقاء النازحين السوريين وافتعال فوضى نقدية في لبنان، وما يدور من نقاش حول المنافسة بين مرفأ حيفا ومرفأ بيروت، وتاليا فإن كل ما يحصل في لبنان من انهيارات ومشكلات اجتماعية ونقدية هدفه صرف النظر عن أهمية مرفأ بيروت وجعل مرفأ حيفا البوابة الوحيدة للخليج الى دول العالم”.
وبعيدا من هذا السيناريو، يجزم الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة، بأن ما نشهده حاليا من تخبط وعشوائية في اتخاذ القرارات هو “مقدمة لارتفاع سعر صرف الدولار بـنحو 5.4% وبأسوأ الاحوال يمكن ضربه بـ 20% و30%… ولا شيء يمنع”. وأكد انه “في حال وقف منصة صيرفة فإن رواتب القطاع العام التي تقدّر ما بين 6 و7 تريليونات ليرة، تضاف اليها أجور القطاع الخاص الذين يفيدون من التعميم 161 والتي تقدر بنحو 3 تريليونات ليرة سيتم دفعها بالليرة اللبنانية، الامر الذي قد يدفع سعر الصرف الى مستويات قياسية على خلفية العرض الكبير لليرات في مقابل الطلب الاكبر على الدولار، ناهيك عن المضاربة وقلة الاخلاق التي يمارسها البعض، بتحريكهم السوق وفق مصالحهم”. وقال: “في حال قرر الصرافون الاقفال، ولو يوما واحدا، يمكن أن يرتفع سعر صرف الدولار الى المليون بكل سهولة، خصوصا أن كثيرين بدأوا برفض التعامل بالليرة، بما يجعل الطلب على الدولار كبيرا. وثمة أمر آخر يتعلق بارتفاع الدولار مقابل الليرة في سوريا بما يؤدي الى زيادة الطلب على الدولار في لبنان، خصوصا ان السوقين اللبنانية والسورية ليستا منعزلتين بعضهما عن بعض”، وأشار في السياق الى توقف الصرافين منذ يوم أول من أمس عن بيع الدولارات، “بما سيشكل صدمة للسوق، وتاليا يمكن أن يرتفع سعر الصرف بشكل كبير”.
وبالحديث عن خطة نواب الحاكم، لفت عجاقة الى انها “تتقاطع مع خطة سعادة الشامي والحكومة وصندوق النقد، إذا لم نقل إنها خطة واحدة، مع فارق وحيد بينهم، هو أن نواب الحاكم نقّحوا خطتهم بمطالبتهم بالتشريع للمسّ بالاحتياط الالزامي”.
واكد ان “نواب الحاكم لا يفقهون بالسياسات الاقتصادية ولا بالصلاحيات، إذ ليس من صلاحياتهم المطالبة بإقرار الموازنة، وعليهم التواصل مع وزير المال، وهذا يثبت ان خطتهم ما هي الا نسخة عن مطالبات صندوق النقد”، مشددا على أن “الصندوق بشكل او بآخر ليس مؤسسة اجتماعية، بل هو في نهاية المطاف مصرف، ويهمه تحرير سعر الصرف بغضّ النظر عن تضرر الفئات المهمشة التي ينصح باللجوء الى البنك الدولي لدعمها”.
وإذ أكد أن “منهجية عمل صندوق النقد لا تناسب لبنان وخصوصا حيال مطالبته بتحرير سعر الصرف”، اعتبر أن “المسألة ليست مسألة أشخاص بل تتعلق بالخيارات. فإذا كان الخيار تحرير السعر فيجب أن يدركوا أن هناك ثمنا اجتماعيا سيدفعه المواطن اللبناني خصوصا اذا لم يكن هناك أموال تدخل الى لبنان”.
واستغرب عجاقة اندفاعة نواب الحاكم لتبديل منصة صيرفة ووضعها في يد “بلومبرغ” لادارتها ومراقبتها بحجة الشفافية، في حين أن في إمكانهم تعديل أنظمتها ومسارها في حال الشك بشفافيتها. وإذ سأل عن دورهم في هذا الصدد كنواب للحاكم، اعتبر أن “خياراتهم بالنسبة لتبديل منصة صيرفة وتحرير السوق جنونية”، وسأل: “هل أخذوا في الاعتبار الموظفين الذين لا يزالون حتى اليوم يقبضون بالليرة، وما سيحل بهم في حال ارتفاع سعر صرف الدولار؟”.
وفيما التسريبات عن اجتماع نواب الحاكم مع لجنة الادارة والعدل تؤكد أن أحد نواب الحاكم طرح رقم 300 ألف ليرة لسعر الصرف وربما أكثر، أكد عجاقة أن “الشامي يتحدث في مجالسه الخاصة عن رقم يفوق رقم نواب الحاكم بثلاث مرات”. وليس الامر مستغربا برأيه “خصوصا أنهم ينفذون خطة صندوق النقد الذي يريد للبنان أن يقف على رجليه ولكن بطريقته الخاصة، علما أنه وفق علم الاقتصاد في حال أرادت اي دولة المضي بالاصلاحات من دون أن يكون هناك في المقابل أي ثمن مالي يصار الى “تفليت” سعر الصرف الذي يمكنه أن يعالج كل شيء، ولكن في مقابل ذلك ثمة ثمن اجتماعي، وثمة ناس ستموت جوعا”.
ويختم عجاقة إن “وصفة صندوق النقد لا يمكن أن تطبق في كل الدول، إذ ثمة ثقافات مختلفة، ومجتمعات مختلفة وديموغرافيات مختلفة، وفي لبنان لا يمكن تحرير سعر الصرف من دون أي سقف أو ضوابط”.
Views: 9