هل تنجح في الثانية مثلما نجحت في الأولى؟ ولماذا نتوقّع أن الأسابيع المُقبلة قد تُعزّز التقدّم الروسي في ميادين المُواجهة؟
عبد الباري عطوان
شخصيّتان رئيسيّتان، أحدهما نيكولا ساركوزي رئيس الدولة الفرنسيّة السّابق، والثاني الصّحافي الاستقصائي الأمريكي تيد سنايدر أكّدا أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خطّطت لإشعال فتيل الحرب الأوكرانيّة قبل أشهر من انفِجارها، والآن تُريد استِمرارها من خلال عرقلتها لأيّ حُلولٍ سلميّةٍ عبر التّفاوض.
ساركوزي أكّد في كِتابه الجديد “زمن المعارك” أنه “عرض عندما كان في السّلطة انضِمام أوكرانيا إلى حلف “النّاتو”، وأيّدته في موقفه هذا المُستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل، واعترف بأنّ شبه جزيرة القرم أرضٌ روسيّة، وأغلبيّة سُكّانها روس، وأن مهمّة أوكرانيا أن تكون دولة مُحايدة، وأن تكون جِسرًا بين أوروبا وروسيا، وأكّد أن مصالح واشنطن تتجسّد في إطالة أمدِ الحرب في أوكرانيا، وقال إن من الضّروري التحلّي بالشّجاعة والخُروج من هذا المأزق لأنّ مصالح أوروبا لا تتوافق مع مصالح الأمريكيين، ولا يُمكننا التمسّك بالفكرة الغربيّة القائمة على شنّ الحُروب دُونَ المُشاركة فيها في إشارةٍ واضحةٍ إلى أمريكا”.
أمّا الصّحافي الأمريكي تيد سنايدر فذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما اتّهم الإدارة الأمريكيّة الحاليّة في مقالٍ نُشر في مجلّة “المُحافظ الأمريكي” بعرقلة ثلاثة لقاءات روسيّة أوكرانيّة جرت في بيلاروس وإسطنبول، بمُشاركة فولوديمير زيليسنكي ومسؤولين روس كبار توصّلت إلى اتّفاقاتٍ أوّليّة بإنهاء الحرب في أيّامها الأولى، نتيجة تقديم روسيا تنازلات بالانسِحاب من كييف، وعدم اغتِيال زيلينسكي، والتوقّف عن المُطالبة بنزعِ سلاحِ أوكرانيا، مُقابل تخلّي الرئيس الأوكراني عن الانضِمام إلى حلف النّاتو.
ولود تشاويش أوغلو، وزير خارجيّة تركيا السّابق الذي ترأس مُفاوضات إسطنبول أكّد “أن هُناك دُوَلًا داخل حِلف “النّاتو” تُريد استِمرار الحرب من خِلال عرقلة أيّ اتّفاقِ سلامٍ يُنهي الحرب الأوكرانيّة”، في إشارةٍ واضحةٍ إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
الرئيس بايدن كان، وما زال، المُحرّض على استِمرار الحرب الأوكرانيّة، لأنّه يُريد تدمير روسيا، بالطّريقة نفسها التي دمّرت فيها بلاده كُل من سورية والعِراق وليبيا، وعبر سِياسات الحِصار والتّجويع والغزو التي تبنّتها جميع الحُكومات الأمريكيّة السّابقة.
لو عُدنا إلى الوراء قليلًا، نَجِد أن “السّابقة الكويتيّة”، هي التّأكيد على ما ذكرناه سابقًا، وتمثّل حرفيًّا في الدّور الأمريكي في التّخطيط وإشعال نار الحُروب والعمل على إطالتها لأطولِ قدرٍ مُمكن حتّى تحقيق أهدافها، فإدارة الرئيس جورج بوش الأب، هي التي جرّت الرئيس العِراقي صدام حسين إلى مِصيَدة الحرب في الكويت، وعارضت الجُهود السعوديّة لمنع انفِجارها، بالضّغط على الجانب الكُويتي لرفض الحُلول التي اقترحتها السعوديّة في مُؤتمر الطائف الذي استَضافته قبل يومين لمنْع اندِلاع الحرب.
التّاريخ يُعيد نفسه في الأزمة الأوكرانيّة، ولكن مع فارقٍ أساسيٍّ أن عدوّ أمريكا هذه المرّة دولةٌ عُظمى تملك أكثر من 650 ألف رأس نووي، وتُقاتل من أجل الدّفاع عن سِيادتها ووحدة أراضيها.
الحِسابات الأمريكيّة في هذه الحرب الأوكرانيّة كانت خاطئة مُنذ اليوم الأوّل، واستِمرارها لن يكون في مصلحة واشنطن ولا حُلفائها الأوروبيين الذين بدأوا يدفعون ثمن تورّطهم في هذه الحرب أزمات اقتصاديّة وتضخّم انخِفاض مُستوى المعيشة لشُعوبهم.
من المُفارقة أن جيك سوليفان مُستشار الأمن القومي الأمريكي صاحِب فكرة انعِقاد مُؤتمر جدّة للسّلام في أوكرانيا، أراده، أيّ مُؤتمر جدة، احتفالًا باستِسلام روسيا، ورفعها الرّايات البيضاء، تمامًا مثلما حدث في مُؤتمر فرساي، ولكنّ النّتائج جاءت مُغايرةً كُلّيًّا لطُموحاته السّاذجة هذه.
الهُجوم الاوكراني المُضاد الذي عوّلت عليه واشنطن كثيرًا فَشِلَ فشلًا ذريعًا، وكشف سيمون هيرش الصّحافي الأمريكي المُخضرم على حسابه على “الفيسبوك” إن المُخابرات المركزيّة الأمريكيّة أبلغت أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة بأنّ هذا الهُجوم الذي ضخّمته إدارة بايدن لن يُؤدّي إلى هزيمة روسيا، وإنه كان مُجرّد استعراضٍ بهلوانيٍّ من قِبَل الرئيس زيلينسكي.
إدارة بايدن وافقت اليوم على السّماح لدُول مِثل الدانمارك وهولندا بأرسال طائرات “إف 16” للجيش الأوكراني لإنهاء تفوّق سِلاح الجو الروسي على الأجواء الأوكرانيّة، ولكنّ هذه الطّائرات ستكون صيْدًا سهلًا لمنظومات صواريخ “إس 400” الروسيّة، وستفشل في مهمّتها بتغيير المُعادلات على الأرض وفي الجو، تمامًا مثلما فشلت منظومات صواريخ “الباتريوت” ودبّابات “أبرامز” الأمريكيّة ونظيرتها الألمانيّة “ليوبارد” والبريطانيّة “تشالنجر”.
إرسال طائرات مُسيّرة لضرب أهداف في قلب العاصمة موسكو، أو نسْف جسر القرم، مُجرّد استِعراضات يائسة من قِبَل زيلينسكي ومُشغّليه لإخفاء الهزيمة الحقيقيّة في إحكام روسيا سيطرتها على شِبه جزيرة القِرم، والأقاليم الأربعة في دونباس شرق أوكرانيا التي ضمّتها.
قُلناها، ونُكرّرها، إنّ الدّول النوويّة لا يُمكن أن تخسر الحُروب، وإن “الجِنرال جليد” الذي سيُحارب إلى جانب الجيش الروسي في الأسابيع المُقبلة مع مقدمِ فصل الشّتاء سيُحقّق العديد من المُفاجآت العسكريّة غير السّارّة للرئيس بايدن.. والأيّام بيننا.
Views: 11