مع اقتراب نهاية شهر آب، تزداد الأحاديث والأقاويل حول مصير الدولار الذي لم يتأثر حتى اللحظة بأي من الخضّات السياسية والنقدية والمالية والأمنيّة التي حصلت في الآونة الأخيرة، إذ لا يزال سعر الصرف على استقراره لا بل شهد تراجعاً زهيداً مُلامساً عتبة الـ89000 ليرة لبنانيّة للدولار الواحد. فمنذ شهر آذار الماضي، يحافظ الدولار على هدوء نسبي بعد عاصفة ارتفاع جنونيّة أوصلته إلى حدود الـ140 ألف ليرة، قبل أن يتدخّل مصرف لبنان حينذاك عبر منصّة “صيرفة” لضبط تفلّت الوضع المالي في السوق السوداء.
إذاً، فشلت كل التجاذبات التي رافقت عمليّة انتقال حكم “المركزي” مروراً بالاضطرابات الأمنيّة المُتنقّلة وصولاً إلى العقوبات الدولية المفروضة على الحاكم الأسبق رياض سلامة وتفجير قُنبلة تقرير التدقيق الجنائي التمهيدي لحسابات مصرف لبنان في رفع سعر الصرف، ليُخالف الدولار بذلك جميع التوقعات والتنبؤات ويبقى صامداً في استقراره للشهر الخامس على التوالي. أسباب الاستقرار كثيرة ومُتعدّدة أبرزها اللجوء إلى سياسة ضخ كميات هائلة من الدولارات في السوق خلال الأشهر الأخيرة لولاية سلامة والتي أسهمت في امتصاص السيولة بالليرة اللبنانية وبالتالي تقلّص حجم الكتلة النقديّة بالعملة الوطنيّة والحد من قُدرة المُضاربين على التحكم في سعر الصرف في السوق السوداء، كذلك دولرة الاقتصاد وعدم الحاجة إلى الليرة بصورة واسعة. فاللبنانيون باتوا يحصلون على معظم السلع والخدمات مقابل دفعهم بالعملة الخضراء وذلك بعد أن أصبح الدولار عملة التداول الرئيسة ويُغطّي حوالي 80 في المئة من الاستهلاك، بالاضافة إلى الموسم السياحي الذي كانت له الحصّة الكبيرة في تأمين الاستقرار النقدي، فأعداد المغتربين اللبنانيين المُتوافدة والتحويلات الماليّة أدّت إلى ازدياد كميّة الدولارات المُستهلكة في السوق وإلى تنشيط بعض القطاعات الاقتصاديّة المُستفيدة مثل قطاعي السياحة والخدمات وإلى إهماد الدولار خلال فصل الصيف.
الاستقرار الراهن في الدولار يعود أيضاً إلى النجاح في تفادي الفراغ في منصب حاكميّة “المركزي”، وقبول الحاكم الأول وسيم منصوري تسلّم المهام الموكلة إليه وإظهار استقلاليّته وتحرّره من السياسات السابقة وتقديمه خطة مالية لاقت قبولاً لدى الأطراف السياسية وشكّلت نوعاً من الارتياح لدى اللبنانيين. كما أنّ النهج الذي يتّبعه الحاكم الإنابة منذ تسلّمه منصب الحاكميّة وإصراره على عدم المس بما تبقّى من الاحتياطي الالزامي لـ “المركزي” وتشديده على ضرورة القيام بتطبيق الاصلاحات الحقيقية انعكست بصورة إيجابيّة على سوق القطع. ويدور في أروقة الحُكم، حديث عن وجود قرار سياسي بتهدئة وضع الدولار إفساحاً في المجال أمام نوّاب الحاكم وتحديداً منصوري لبدء فترة حكمه باستقرار نسبي يُساعده في المضي قُدماً بتنفيذ الخطة التي قدّمها.
وعلى الرغم من هذا الاستقرار الحذر، يبقى سعر الصرف عُرضة للإرتفاع في أي لحظة من دون أي سابق إنذار طالما أنّ التقلّبات الحادة التي يشهدها الدولار ليست خاضعة لأسباب اقتصادية أو نقدية أو مالية بحتة. ففي موازاة أسباب الاستقرار، هناك أيضاً عوامل عديدة من شأنها أن تكون وراء عودة ارتفاع الدولار مثل إلغاء منصة “صيرفة” التي لعبت دوراً أساسيّاً في استقراره في السوق السوداء، إذ قد يؤدي الابقاء على توقف العمل فيها من دون طرح بديل لها إلى زيادة الضغط على سعر الصرف. كما أنّ رفض منصوري إقراض الحكومة أي دولار من دون تشريع مجلس النواب منعاً لاستنزاف المزيد من الاحتياطي وعدم التوافق على إقرار قانون كهذا، قد يدفع بالدولة إلى ضخ سيولة بالليرة من أجل تسديد التزاماتها. هذا الخيار سوف يؤدّي، لا سيما في حال فشل الدولة في تحسين ايراداتها والذهاب إلى تمويل انفاقها عبر طباعة المزيد من العملة الوطنيّة، إلى ارتفاع الكتلة النقدية مُجدّداً، الأمر الذي يعني زيادة الضغط على الليرة وحدوث موجة تضخّم جديدة وارتفاع سعر صرف الدولار خصوصاً في حال تزامنه مع انتهاء الموسم السياحي الشهر المقبل ومُغادرة المُغتربين وتضاؤل الدولارات في السوق، ليعود سعر الصرف إلى التحرك صعوداً ويُعاود الدولار مساره التصاعدي الطبيعيي.
منذ آذار الماضي وحتى اليوم لم يتزعزع استقرار الدولار، وعلى الرغم من الجو التطميني الذي ينشره منصوري وتعهّده باتخاذ كل الاجراءات والاحتياطات المُناسبة للحفاظ على الاستقرار النقدي في حال تفلّـت سعر الصرف نهاية آب الجاري، إلّا أنّ جميع اللبنانيين يترقّبون بقلق قدوم شهر أيلول لا سيما مع تصاعد الأجراس التحذيريّة المُتعلّقة بتعرّض لبنان لسلسلة من التحديات والمخاطر الاقتصاديّة والماليّة القريبة في حال عدم مُسارعة القوى السياسيّة إلى القيام بواجبها الوطني. فالشهر التاسع من السنة مفصلي وحاسم على كل الأصعدة وتنتظره الكثير من الملفات الشائكة والصعبة. كما أنّ مصرف لبنان وسياسة منصوري التي تنسجم مع توجّهات صندوق النقد الدولي ومطالبه لن يستطيعا وحدهما القيام بتسكين سعر الصرف إلى وقت طويل في ظل غياب السياسات الاقتصادية والمالية الفاعلة ورفض المجتمع الدولي إعطاء أي دعم مادي للبنان من دون إقرار القوانين والبرامج الاصلاحية المطلوبة لإعادة إطلاق العجلة الاقتصاديّة.
وعليه، فإنّ الاستمرار في ممارسة الكباش السياسي وتعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة وغياب النيّة الاصلاحية ووضع العصي في دواليب الحلول، من شأنها جميعاً أن تنعكس سلباً على الاستقرار النقدي وعلى هدوء سعر صرف الدولار الذي لا يزال قابعاً في هدنة مُترنّحة ومُعرّضة للإنهيار في أي وقت.
Views: 24