بقلم /أسد الشمالي/ إعلامي سوري.
حتّى يوم السَّابع من تشرين الأول / اكتوبر عام 2023 ، كان منطقُ السِّياسةِ العالميةِ ، وموازينِ القوى والتحالفاتِ تُقرأ بجميعِ أوجهها بمنطقٍ ظلَّ سائداً حتى هذا التاريخ ، فيما اختلفَ المنطقُ جذرياً بعدهُ…ولن يكونَ العالمُ كما كانَ من قبل بعد ذلك اليوم ، فقد غير الفلسطينيونَ العالمَ بساعاتٍ قليلةٍ.
يمكنُ القول ، وبحسبِ المعلوماتِ التي تسربتْ عقبَ تخبّطِ قادةِ كيانِ الاحتلالِ الاسرائيلي ، في تحديدِ وتحليلِ أسباب الخرقِ الكبير ، وإلقاء التهمِ بوجودِ “خيانات” داخل المنظومة الأمنية والعسكرية للكيان ، أن عملية ( طوفان الأقصى ) استبقت مشروعاً خطيراً ، وقطعتِ الطريقَ على لعبةٍ دوليةٍ واسعةٍ ، أرادَ من خلالها النظامُ الأحاديُّ القطب أن يقول لكل العالم : “كش ملك” ، أو كما قال الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عند غزو بلاده للعراق : “المهمة اكتملت”.
لكن ما صنعه ولايزال يصنعه الفلسطينيون من صمود إعجازي بوجه عدوان وحشي غير مسبوق في التاريخ، كان بمثابة زلزال ، في جبهة الكيان الإسرائيلي الداخلية هددته في استمرارية وجوده ، وبالتالي فإن مسارعة من كانوا يعملون في الظل لإنقاذه ، كشف كثيرا من الخيوط والوقائع وأعاد قراءة التاريخ بوثائق الادانة القاطعة ، لكل من سار ولايزال يسير في مشروع خطير ، يدبر للعالم من قبل نظام القطب الأحادي ومنظوماته الفكرية والسياسية والسلطوية داخل البلدان العربية على وجه الخصوص .
لقد كشف عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة ،هذه المنظومة بالكامل وأسقط رغماً عن هذا الاحتلال ، أسلحة سرية خطيرة من يدها ، تتمثل في كشف شبكات معقدة عميقة الاختراق بالاقتصاد والاعلام والتعليم والثقافة والدين وكل مناحي الحياة .
ولعل مسارعة كل من مصر والأردن والسعودية والامارات لنجدة إسرائيل والمشاركة في عدوانها الهمجي بالحصار والدعم العسكري وتسهيل الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني ، سيكون له تبعات على مستقبل هذه الدول والأنظمة الوظيفية التي صنعت ، أو دجنت “كما في حالة مصر” لخدمة مشروع يهودية كيان ما يعرف ب”دولة إسرائيل” المصطنع .
وينصح دينيس روس الديبلوماسي والمستشار في معهد واشنطن والمساعد الخاص السابق للرئيس أوباما ، في إطار حل مسألة انكشاف الأنظمة العربية المساندة لإسرائيل في عدوانها على قطاع غزة أمام شعوبها ، بأنه يجب على إسرائيل أن تبيّن لشركائها من الدول التي وقّعت على “اتفاقيات إبراهيم” وتشترك معها في علاقات استخباراتية – كيف تتوافق خطواتها العملياتية في غزة مع أهدافها”
جانب آخر كشفته عملية طوفان الأقصى والتصدي الفلسطيني للعدوان الإسرائيلي ، وهو تعريةُ منظماتِ الإسلامِ السياسيِّ أمام الشارع العربي ، بعد أن اتُخذتْ كرأسِ حربةٍ في تحطيمِ التماسكِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ والاقتصاديِّ للبلدان العربية ، وخاصةً الرافضة منها ، أو حتى المتأخرة عن السَّيرِ في رُكبِ ما يسمى “التطبيع” ، بإعلانِ ما أطلقت عليه هذه المنظمات “الجهاد ضد الأنظمة الكافرة” ، من منطلق أن تحرير فلسطين يبدأ بإزالة هذه الأنظمة ، وفق زعم قادة ومنظري تيارات ما يعرف بالإخوان المسلمين ، والسلفية الجهادية ، التي أنتجت الكثير من هذه المنظمات الإرهابية ، ومن بينها “داعش” وكر المخابرات الغربية الفكري والعسكري ، وسلاحها المرعب البالغ الخسة ضد العروبة والإسلام ، والتي أحدثت زلازل بنيوية في الدول والمجتمعات العربية التي استهدفتها . ستنقل الواقع العربي إلى مرحلة جديدة في صناعة نمط جديد من الوعي الرافض لهذا النهج.
ولعل انكشاف دور “جامعة تل أبيب الإسلامية” الذراع الإسرائيلية الاستراتيجية ، في اختراق وجدان الشعوب العربية والإسلامية ، سيدفع هذه الشعوب للبحث عن تعزيز مناعة ذاتية ضد أساليب الاختراق والسيطرة عليها ، بعد الزلازل الجيوسياسية التي أحدثتها أدوات مشروع إسرائيل الإسلاموية ، بهدف إعادة ترتيب الجغرافيا السياسية في المنطقة العربية ، وبالأخص في دول عربية لطالما شكلت رافعة لشخصية الأمة العربية مثل سورية والعراق ومصر واليمن والجزائر وتونس وليبيا ولبنان، وحتى داخل البيت الفلسطيني ، في دول النزوح أو تحت الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة .
وفي إسقاط ذلك على ما فعلته حماس ، التي سبق أن انجرت مع المشروع العالمي للإخوان المسلمين خلف الذيل القطري – التركي التابع للمشروع الصهيوني ، ومشاركتها في تدمير سورية وطعنها في الظهر ، بعدما كانت سورية حاضنة ل”حماس المقاومة ” قبل إعلانها الأخونة كمشروع و نهج ، فقد أعادت عملية طوفان الأقصى بوصلة حماس نحو مصلحة الشعب الفلسطيني ، وبالتالي فإن تنسيقها مع محور المقاومة ، وقيامها بإجراء تعديلات جوهرية في استراتيجيتها ، أسقط الدور الذي برعت فيه إسرائيل من خلال ذراعيها ،”الليبرالية الجديدة” و “الإسلام السياسي” باختراق المقاومة الفلسطينية .
وفي ظل خسائر ميدانية جسيمة تعصف بقوات الاحتلال الإسرائيلي العاجزة عن تثبيت احتلالها لقطاع غزة ، والمدانة أمام جبهتها الداخلية بعدم الإفصاح عن حجم الخسائر العسكرية الحقيقية ، تحاول إسرائيل إيجاد عوامل للدفع نحو حرب إقليمية واسعة ومدمرة ، يكبح تطورها حتى الآن أمرين :
الأول : أداء محور المقاومة المتناغم والمتناسق بإدارة المعارك ضد العدوان على غزة من جبهات متعددة .
والثاني : أنه لن يكون بمقدور الولايات المتحدة وإسرائيل أن تضمن نتائج الحرب الإقليمية الواسعة ، حيث أنه ووفقا لمعطيات التقارير الاستخباراتية الأمريكية ذاتها ، هناك احتمال هزيمة استراتيجية كبير بصورة غير محددة ، يعكسها القلق الأمريكي والرحلات المكوكية للقيادة العسكرية الأمريكية العليا إلى المنطقة .
لعل التحذير الذي وجهه أعلى مسؤول عسكري في الإدارة الأميركية ممثلا بوزير الدفاع لويد أوستن، لإسرائيل من منتدى ريغان الدفاعي في ولاية كاليفورنيا مطلع شهر ديسمبر والذي قال فيه :
“إن إسرائيل تخاطر باستبدال نصر تكتيكي بهزيمة استراتيجية ” ، في إشارة إلى إمعان الكيان الإسرائيلي بقتل الأطفال والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، ما تسبب بتغير الرأي العام العالمي الذي دأبت على صياغته وتدجينه سطوة الآلة الإعلامية والتكنولوجية الأمريكية على مدى عشرات السنوات .
وبالتالي فإن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة أمام هزيمة استراتيجية تضعهما بين خيارين ، إما القبول بالهزيمة ، أو إعلان الحرب العالمية الثالثة التي تدور رحاها أصلا ، بالحروب الهجينة ومعارك الوكالة المتنقلة ، وبالتالي إظهارها إلى العلن بعد أن يكون من غير المفيد الاستمرار بهذا النمط من الحروب ، لصالح الانجرار نحو الحروب المباشرة ، في حال اتخذت الولايات المتحدة مثل هذا القرار المدمر لكوكب الأرض..
وبالتأكيد فإن هذا القرار مستبعدٌ جداً ، لأن جميع المشاركين في هذه الحرب مهزومون ، ولهذا فإن بحث الولايات المتحدة عن سبل مواجهة جبهة مهمة كالجبهة اليمنية التي تتحكم بالاقتصاد العالمي ، يتجه لإيجاد مخرج للاحتلال الإسرائيلي ، بتسويات تقلل من خسارة هذا الكيان المذلة ، ومنها منع محاكمة قادته العسكريين والسياسيين لما ارتكبوه من فظائع .
بينما سيضع انتصار المقاومة ومحورها، المنطقة على طريق تحولات جوهرية لن يعود بإمكان الولايات المتحدة التقليل من اندفاعتها أو عكس اتجاهها ، وخاصة فيما يتعلق بالتغييرات داخل منظومة الدول الوظيفية ، مثل دول الخليج ، والأردن ومصر .
وبالتالي فإن العالم قد تغير ، وتم إنقاذه من قبل الشعب الفلسطيني ، وواجب العالم ، والعرب على وجه الخصوص، تجاه هذا الشعب المظلوم ، أن يمكنه من استعادة حقوقه ، أو على الأقل أن لا يعود للتآمر عليه ، بينما يقتضي واجب الوفاء لدماء الشهداء على طريق تحرير فلسطين ، وما تحمله الشعب الفلسطيني في سبيل ذلك ، أن تحافظ المقاومة الفلسطينية على مناعتها ضد الاختراق ومحاولة السيطرة عليها ، وأن لاتحيد عن هدف الشعب الفلسطيني في استعادة الحقوق وتحرير الأرض.
Views: 9