عبد الباري عطوان
أن ينقلب ثلاثة من أبرز الوزراء في حُكومة بنيامين نتنياهو على رئيسهم، ويُشارك اثنان منهم في مُظاهرات احتجاجيّة تُطالب بإسقاطه، في ذِكرى مُرور 100 يوم على بداية حرب غزة، فهذه ليست دلائل انتِصار وإنّما مُؤشّرات هزيمة مُؤكّدة، فالمُنتصرون في الحُروب يحتفلون، ولا يختلفون، ويتمرّدون على رئيسهم.
نشرح أكثر ونقول إن بيني غانتس، وغادي آيزنكوت، الوزيران في حُكومة الحرب، خرَجا من آخِر اجتماعاتها اليوم غاضبين، وذهبا فورًا إلى مُظاهرةٍ يرفع المُشاركون فيها لافتات تُؤكّد على فشل الحُكومة في استِعادة الأسرى، ويُردّدون شِعارات تُطالب بإسقاط نتنياهو الذي فشل في حِماية مُستوطنيه، وتحقيق الأمن والاستِقرار لهم، وتقديم مصالحه الشخصيّة على جميع الاستِحقاقات.
التّفكّك في حُكومة نتنياهو بلغ ذروته عندما خرج الجِنرال يوآف غالانت وزير الحرب من اجتماعٍ طارئ لحُكومة الحرب غاضبًا بعد أقل من ساعة من انعِقاده، وبعد تلاسُنٍ حاد مع رئيسه نتنياهو، ومن غير المُستَبعد أن تكون هذه الانسِحابات مُقدّمة لانضِمام وزراء آخرين، وربما يُؤدّي إلى انهيارٍ كامِلٍ للحُكومة.
***
قُلنا في هذا المكان، ومُنذ اليوم الأوّل من بدء الحرب البريّة، أنّه كُلّما امتدّ أمد الحرب، كلّما تفاقمت الهزائم الإسرائيليّة، وتعاظمت انتِصارات رجال المُقاومة الذين امتصّوا الصّدمة، وكثّفوا هجماتهم على القوّات الإسرائيليّة الغازية، وأفشلوا جميع خططها، وكسروا أنْفَ غُرورها.
الأنباء التي تواترت طِوال الأربعة والعشرين ساعة الماضية عن انسِحابات قوّات الاحتِلال من مُدُنٍ ومُعسكرات وسط القطاع، ومن شرق كُل من دير البلح وخان يونس، وقبلها الشجاعيّة (قوّات جولاني)، تُؤكّد ضخامة حجم الخسائر البشريّة، وتصاعُد أعداد العربات والدبّابات المُدمّرة، فهذا ليس انسحابًا بقدر ما هو هُروب من المُواجهة، واعترافًا عمليًّا بعدم القُدرة على الاستِمرار فيها.
ربّما يكون من الخطأ النّظر إلى الأُمور من زاوية الرّبح والخسارة أثناء التّعاطي مع هذه الحرب وتطوّراتها، فنحنُ لسنا أمام صفقة تجاريّة، وإنّما أمام حرب تحرير بين طرفٍ قويٍّ مُتغطرس يحظى بدعم علني من قِوى عُظمى مِثل الولايات المتحدة، ومُقاومة صلبة سِلاحها الأقوى هو الإدارة والإيمان، والقِتال حتّى الشّهادة، ولكن إذا نظرنا إلى النّتائج على الأقل، فإن هذا الصّمود المصحوب بقِتالٍ شرس على كُلّ الجبهات، ونقل الحرب إلى قلب الأرض الفِلسطينيّة المُحتلّة، وتدمير أُسطورة الرّدع عِند العدو التي أرهبت جُيوشًا عربيّة جرى إنفاق مِئات المِليارات على تسليحها وتدريبها، هذا الصّمود ونتائجه الأوّليّة، جاء بمثابة إعلان لبدء انهِيار المشروع الصّهيوني الاحتِلالي العُنصري، وربّما الهيمنة الغربيّة على الشّرق الاوسط أيضًا.
صحيح أن الشعب الفِلسطيني فقد أكثر من 24 ألف شهيد، و66 ألف جريح، وتشريد مِليونين من أبنائه في القِطاع، وتدمير حواليّ 86 بالمِئة من منازلهم، وهذه أرقامٌ مُرعبة، ولكنّ الصّحيح أيضًا أنّ خسائر العدو لهيبته وردعه، وأكثر من 1700 من جُنوده قتلى، وعشَرات الآلاف من الجرحى، وتشريد أكثر من نِصف مِليون مُستوطن سواءً من مُستوطنات شِمال فِلسطين، أو من جنوبها، بفِعل عمليّات المُقاومة، تظلّ كلّها إنجازات ضخمة وغير مُتوقّعة، فالعدوّ لم يتعوّد على الخسائر، وخوض الحرب في “أرضه” طِوال الـ 75 عامًا الماضية، وإنّما تعوّد على مُواجهاتٍ “سهلةٍ” مع جُيوشٍ عربيّةٍ مهزومةٍ، ومُتكرّشة، وبُنيت في الأساس من أجل الفساد، والعُمولات، والمُشاركة في الاستِعراضات العسكريّة المُضلّلة.
دولة الاحتِلال وضعت كُل ثقلها وإمكانيّاتها العسكريّة على أمل حسم هذه الحرب بسُرعةٍ لمصلحتها، وتحقيق جميع الأهداف، وأبرزها القضاء على المُقاومة لطمأنة مُستوطنيها المرعوبين، واستعادة جميع الأسرى، ووجدوا دعمًا مُباشرًا من الولايات المتحدة ماليًّا وبشريًّا ومَعداتيًّا، ولكنّهم وبعد 100 يوم لم يُحقّقوا أيا من هذه الأهداف رُغم حرب الإبادة والتّطهير العِرقي التي شنّوها، ودخلت هذه الحرب التّاريخ كأطولِ حربٍ تشنّها دولة الاحتِلال مُنذ اغتِصابها فِلسطين.
نقطة التحوّل الرئيسيّة في هذه الحرب تتمثّل في ثلاثة أُمور:
-
الأوّل: وجود قِيادة فِلسطينيّة شُجاعة ومُؤمِنَة لا تخاف من العدوّ ولا من داعميه، وقادرة دُونَ تردّد على اتّخاذ قرار الحرب والاستِعداد لكُل تبعاتها.
-
الثاني: وجود حاضنة شعبيّة داعمة ومُؤمنة لها.
-
الثالث: الانتماء إلى محور مُقاومة يتمتّع بنَفَسٍ طويل، وخاصَّةً في اليمن والعِراق وجنوب لبنان.
جميع الشّعوب التي حاربت الاستِعمار، وقاومت احتِلاله بشجاعةٍ، وفُرضت عليها الحُروب، تكبّدت خسائر كبيرة، فكلّما تضخّم حجم الهدف السّامي تعاظمت أخطاره وخسائره، فالفيتناميّون قدّموا ملايين الضّحايا، ورواندا الإفريقيّة الصّغيرة خسرت مِليونين من أبنائها في حربٍ أهليّةٍ قبليّةٍ، وباتت الآن من نُمور إفريقيا، أمّا العِراق الشّقيق فما زالَ يُعاني من أعراضِ عُدوانٍ أمريكيٍّ كلّفه مِليونيّ شهيد، والشّيء نفسه يُقال أيضًا عن الشّعب الأفغاني، والشّعب الفِلسطيني لم يختر قدره وكُتب عليه القِتال.
***
الأشقّاء في اليمن جرّوا أمريكا إلى مصيدةِ حربِ استنزاف عسكريّة واقتصاديّة واستراتيجيّة، وأحدثوا انقِسامًا تاريخيًّا في المُعسكر الغربي، فمُعظم الدّول الأوروبيّة رفضت المُشاركة في الحِلف الأمريكي الاستِعماري في البحر الأحمر، والشّيء نفسه يُقال عن حُلفاء عرب وأفارقة في الدّول المُشاطئة له، ولعلّ الانتِصارات التي يُحقّقها الجيش الروسي في حرب أوكرانيا “المنسيّة” هذه الأيّام يفرض على الرئيس فلاديمير بوتين أن يردّ الجميل للعرب وللمُقاومة الفِلسطينيّة “الحمساويّة” بدعمها والوقوف في صفّها لأنّها تُقاتل وتُضحّي من أجلِ قضيّةٍ عادلة، لكنّ هذا لم يَحدُث للأسف، نقولها وفي الفمِ مرارة، ويُجسّد هذا النّكوص في عدم استِخدام حقّ النّقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي للتّمهيد للعُدوان الأمريكي في اليمن الشّقيق أصْلُ العرب.
طالما يستمرّ إطلاق الصّواريخ من قطاع غزة لضرب تل أبيب، وتتعاظم الخسائر البشريّة والعسكريّة الإسرائيليّة يومًا بعد يوم، وتفشل كُلّ الجُهود الأمريكيّة والإسرائيليّة في الوصول إلى قيادة المُقاومة وغُرفة عمليّاتها، ومصانعها تحت الأرض، ويفشل مشروع التّهجير حتّى الآن، فإنّ بشائر النّصر باتت مُؤكّدة ومكتوبة على الحائط.. والأيّام بيننا
Views: 24