سهى صبّاغ
كاتبة لبنانية
الفن ليس للفن كما روّجت له الثقافة الأميركيّة، بل هو من أهم اللغات الانسانيّة لخدمة الإنسان والوطن.نشكر من بموقفه ضدّ التطبيع السيّد حسن نصرالله، الذي حرّك مشاعر الغيارى على الفن. لا ينفكّ هذا الرجل عن تحقيق "المعجزات" والأساطير!
"وآه من الفن وعمايلو.." طالما موضوعنا عن الفن، فلا بد من "آه" في البداية.
طالبنا بمنع عرض فيلم "هيدا شو إسمو؟!" ستيفن سبيلبرغ، وكان يوم مجدنا. اكتشفنا المحبين للفن يطلعون من حيث لا يُحتسب، فاستغربنا كيف أن وضع الفن عندنا في الحضيض. من يتوقّع بأن أحد داعمي الدّواعش ورعاتهم، وما أدراك ما أيديولوجيّتهم، يناصر الفن. هي أعجوبة الفن في بلد "الإشعاع"، ألم نقل "آه من الفن وعمايلو"؟
لم يعد يخفى على أحد بأن الفيلم الأميركي "ذي بوست" مُنِع عرضه في صالات السينما اللبنانيّة، من قِبَل الرقابة، لوجود اسم مخرجه "ستيفن" على اللائحة السّوداء، بسبب تمويله ودعمه الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، (والتسبّب في ارتكاب المجازر وتدمير المباني وبلدات بكاملها) وأيضاً بإصرار المجموعات التي تناهض التطبيع مع إسرائيل، والتعامل معه في لبنان، وتكتّلات وطنيّة أخرى، على عدم السّماح بعرضه، فيأتي وزير الدّاخليّة ليُلغي المنع، متعدّياً على القانون اللبناني، وعلى دور الرّقابة.
لقد أثار منع عرض الفيلم، حفيظة واستنكار بعض اللبنانيين مُعتبرين أن هذا المنع هو انتهاك للحريّة، وبعض السياسيين اعتبر بأنه سيؤثّر سلباً على الحضارة والانفتاح والفن في لبنان.
أوهام الغيارى وموت الفنّان على أبواب المستشفيات
هل تعلمون ياسادة يا كرام وضع الفن والفنّان في لبنان، كيف حاله؟ هذا السؤال موجّه للسياسيين الغيارى على البلد والفن، والذين بيدهم إعلاء شأن الفن والابداع ليكون فعلاً منارة للبلد.
في كل الدّول المحترمة، تدعم الدولة الانتاج المحلّي، لتشجّع الفنان على العمل في مجاله والاستفادة من موهبته، ويطلع بأعمال فنيّة وأفلام سينمائيّة، تعرض محليّاً وفي أنحاء العالم، رافعة علم البلاد واسمها. أين هو الانتاج المحلّي من قِبَل الدّولة؟ الفنان يركض لاهثاً خلف الإنتاج الخاص، وأصحابه بالغالب هم من التجّار الذين أوصلوا الفن في لبنان إلى الحضيض، إلا ما ندر من الأعمال الفنيّة، أو يأتي الفنّان بإنتاجات غربيّة، تتحكّم بالرسالة الموجّهة من خلال الفيلم. وفي البحث عن لقمة العيش، تُستزف موهبة وطاقة الفنّان الذي يعمل بمهن مختلفة. أنتم واهمون إن اعتقدتم بأن الفنان في بلد "الغيارى"، يعيش حياة كريمة، وبأقلّ تقدير، حين يمرض، يُذلّ ويموت على أبواب المستشفيات.
فرص سرقة كي لا تنهشوا لحمنا
إن تحوّلنا إلى التلفزيون فسنجد المسلسلات، "احتلال عثماني". بالكاد نشاهد مسلسل لبناني بمستوى فني راقٍ، بعدما كانت الدراما اللبنانيّة الأولى في العالم العربي، لأن المنتج التاجر، لا تعنيه الرسالة الفنيّة ولا إعلاء إسم لبنان، بل إعلاء جبل أمواله، والمساهمة في هبوط الذّوق والوعي عند المشاهد "لغاية في نفس يعقوب" وكأن لدينا نقص في الأعمال الهابطة، فتُغْرَق المحطّات التلفزيونيّة بالمسلسلات التركيّة لتكوّن "احتلالاً" من نوع آخر.
نعم يا معالي الوزير وسعادة النائب وإلى ما هنالك من ألقاب، جئتم بها لخدمة الوطن وأبنائه من فنانين وغيرهم، فأصبح المواطن ومعهم الفنان يصل لآخر الشّهر منهك على معدة فارغة، وفوق ذلك، تحاوطه النفايات ورائحة الفساد.
الفنّان يساوي شحّات
عمّاذا نخبركم وهمومنا كمواطنين تتفوّق على همومنا كفنانين؟ أصبح الفنان يخجل أن يُعَرّف عن نفسه كفنان، فيضحك عليه الشعب بأكمله. المعادلة الحسابيّة في الوطن، الفنان يساوي شحّات. وتريدون الإعلاء من شأن الفن وأنتم غيارى عليه؟ وعلى ماذا أنتم غيارى، على فيلم لمخرج أميركي مليونير، لن يزيد العائد اللبناني على جيبه إلا القروش، فيأخذها نكاية بنا ويدفعها ثمن سلاح يقتلنا به؟ المواطن اللبناني، ومنذ زمن لم يعد بإمكانه الدخول إلى دور السّينما، هو بالكاد يُشبع معدته ومنهم من ينام على معدة تستطيعون أن ترقصوا على موسيقاها الفارغة. قلت لنا إنك غيور على الفن يا صاحب السعادة والسيادة والمعالي؟
الحقوق الفنيّة المنهوبة
الموسيقيون في لبنان تسجيلاتهم منهوبة، ولا حماية لحقوق الفنان الذي تسرق أعماله وتباع. يعمل الموسيقي، ويكتب الكاتب، ويذهب ليستدين لقمة عيشه، أمّا في بلاد المخرج الذي يُصرّون على عرض فيلمه، يعيش الكاتب حياته بأكملها من مدخول كتاب واحد ينشره، والموسيقي يعيش من عائدات موسيقاه. أما بالنّسبة للفنان التشكيلي، هات اذكر لنا أسماء المتاحف الوطنيّة، التي تحفظ أعمال الفنانين والروّاد، الذين مرّوا بهذه الحياة وتركوا أعمالهم لتندثر من بعدهم، في بلد الاستهتار بالفن والإنسان. حين يأتي السوّاح الذين تبحثون عنهم، وترجونهم كي يزوروا لبنان، والذي على فكرة، لم يعد أخضراً بسبب كسّاراتكم، التي لم تترك جبلاً ولا تلّة، وارتفعت بدلاً منهما جبال النّفايات، والبحر الذي عمّرتم على شواطئه المباني الفخمة والمنتجعات ولم تتركوا للمواطن مكان يتنفّس منه.
يأتي السائح ليشاهد حضارتنا؟! فهل الكبّة النيّة والتبولة كافيتان ليتكلّف سعر بطاقة السّفر؟
يسألوننا عن المتاحف التي تحفظ أعمال فنّاني البلد. إلى أين ندلّهم؟ حتى الأعمال التي اشترتها الدولة، بعضها موجود في المستودعات الرطبة لتتلف، والباقي موزّع على بعض مكاتب السياسيين لتزيّنها، وهذا ليس مكانها الأصلي، بل هي المتاحف التي عادة تكون بمتناول الأجيال وزوّار البلد، هذا عدا عن الأعمال المنهوبة. وتحكون عن الفن دون رفّة جفن؟
حيوانات سبيلبرغ تخاف عسر الهضم
المواطنون المعترضون على عرض فيلم سبيلبرغ، نحن لا نجازف لو قلنا بأن أكثرهم غير مهتم بأي نوع من أنواع الفنون، فصالات السينما والمسرح، أغلب الأوقات فارغة إلا من قلّة، ومعارض الرسم وكل أنواع الفنون، لا تحثّهم لأي اهتمام، ولكن الكيد يعمي القلوب، والوفاء للوطن ما عاد من فئة الدّم الوطنيّة، وما عاد صفة "حضاريّة". تصوّروا يا سادة بأن هناك من يناصر الفن، ولا يعرف أوّل أبجديّاته وهو التذوّق والاهتمام. لن نستغرب مِمَن دَعَمَ الحرب الإسرائيليّة على شعبه و"بلده"، أن يستنجد بسبيلبرغ كي يزيد من تأجيج الكراهية والانقسام والخيانة للوطن.
أتخايل سبيلبرغ يضعهم في حديقته المتخيّلة، ويُفلت عليهم حيواناته الآتية من كوكب آخر، لترميهم من فضاء إلى آخر وتعزّ نفسها عن أن تأكلهم، خوفاً من عسر الهضم.
لمارلون براندو تحيّة، و"معجزة" نصرالله
كل يوم هناك إنجازات علميّة يُحقّقها لبنانيّون في الوطن وخارجه، تُهمل وما من يتبنّاها، ورياضيون يأتون حاملين ميداليّاتهم وانتصاراتهم، ولا من يستقبلهم ولا من يُهنّئهم أو يدعمهم بأي شكل من أشكال الدعم. الآن لأن المخرج الذي ذهب إلى إسرائيل وحصل على الرضا، يترشّح للأوسكار، ويُهنّئه الوزير وغيره من المطبّعين. أين أوسكاراتكم يا "عظماء الأمّة"؟
يحضرني ممثّل، هو مدرسة فنيّة متميّزة "مارلون براندو" حين رُشّح للأوسكار عام 1973 عن دوره في الفيلم الذي أصبح تحفة للمكتبة الفنيّة "الغادفاذر" فبعث بممثلة يافعة هي سيشين ليتل وذر ذات الأصول الهنديّة "الهنود الحمر" أصحاب الأرض الأصليين، كي تذهب بدلاً منه، وتبلغهم رفض براندو للجائزة، بسبب المعاملة السيّئة التي يتلقّاها الهنود من قِبَل صنّاع الأفلام، والمعاملة الدونيّة لهم، مستغلاً 85 مليون من المشاهدين ليوصل رسالته، وفي اليوم التالي نُشِرَت رسالته في النيويورك تايمز. هذا الفنان وظّف ملايينه التي كان يربحها من أعماله،في بخدمة مناهضة العنصريّة ضد أصحاب البشرة السوداء والهنود الحمر.
الفن ليس للفن كما روّجت له الثقافة الأميركيّة، بل هو من أهم اللغات الانسانيّة لخدمة الإنسان والوطن.
في النهاية نشكر من بموقفه ضدّ التطبيع السيّد حسن نصرالله، الذي حرّك مشاعر الغيارى على الفن. لا ينفكّ هذا الرجل عن تحقيق "المعجزات" والأساطير!
المصدر : الميادين نت
Views: 2