رقية مبروكة
على واجهة الإعلام العربي والدولي، وفي المنابر الأكاديمية العالمية، تردد / يتردد مصطلح “الحداثة” بكثافة، على ألسنة المفكرين السياسيين والاقتصاديين، كما على ألسنة الشعراء والأدباء والفنانين.
وإن مصطلح الحداثة صعب التحديد لغويا وعلميا، إلا أنه أصبح يستخدم إعلاميا لتحديد مرحلة فنية / صناعية / حضارية متميزة آخذة في التلاشي والاضمحلال، وظهور مرحلة جديدة، ذات مواصفات وقيم حديثة.
“الحداثة”، في مفاهيمها الغربية، هي ذلك الوعي المتجدد بمتغيرات الحياة/ هي تلك المستجدات الحضارية المتوالية / هي الانسلاخ من الماضي، ومن هيمنة أفكاره ومنجزاته والانخراط الشامل في العصر الحديث بقيمه الثقافية والحضارية.
والحداثة، في هذه المفاهيم، ليست ظاهرة مقصورة على فئة أو طائفة أو نخبة أو جنس معين؛ فهي استجابة حضارية للقفز على الثوابت، وتأكيد مبدأ استقلالية العقل الفاعل، تجاه التجارب والإنجازات السابقة في كل المجالات ولدى كل الشعوب.
إن مرتكزات الحداثة الغربية، في نظر العديد من الباحثين، تمثلت في ظواهر كبرى بارزة للعيان، هي: الثورة العلمية والتقنية الهائلة التي غيرت جذريا نظام المعارف وحورت وقلبت الوضع الإنساني نفسه بما وفرته من أدوات تحكم وتسيطر على الوسط الطبيعي/ الدولة المدنية الحديثة بنظمها المؤسسية وعقلانيتها البيروقراطية وشرعيتها المجتمعية في مقابل الدولة الاستبدادية الفردية / هي المثل والقيم الانسانية التي شكلت القاعدة الفكرية والايديولوجية لمسار الحداثة من حيث هي إعلان لشأن الانسان وتكريس لحريته الذاتية.
والواقع ان هذه الظواهر الثلاث تتلخص فلسفيا في منطلقين أساسيين هما:
– النموذج الرياضي-التجريبي : أي إعادة بناء المعارف والعلوم على معيار القابلية للتحقق التجريبي، واعتبار الطبيعة من هذا المنظور مخزون طاقة يستغل لتكريس سيطرة الإنسان، وبالتالي تحويل المعرفة إلى وظيفة نفعية أداتية ليست في ذاتها مقولة علمية، وإن كانت المصادرة الميتافيزيقية التي يقتضيها معيار “اليقين العلمي” كما بين ذلك الفيلسوف الألماني هايدغر.
– مفهوم ” الذاتية” الذي اعتبره هيغل مفتاح فهم العصور الحديثة، ويعني هذا المفهوم تكريس مرجعية الذات ومحوريتها في مسار المعرفة من حيث هو تأمل وتفكير للوصول إلى اليقين عبر حركية داخلية تتم ضمن الوعي نفسه، سواء اعتبرت مفاهيم الوعي أفكارا تنتمي عضويا إليه أو ترد إليه عبر التجربة، أو هي مركب منهما.
ويعني هذا المفهوم في ما وراء هذه التحديات الأنطولوجية تكريس حرية الإنسان في تجسيد إرادته “المطلقة” في بناء وعيه واختيار مؤسساته وغدارة حرياته الشخصية.
ومن الواضح أن هذا الإطار المرجعي- القيمي للحداثة أصبح اليوم-في الظاهر على الأقل- ملكا مشاعا بين الأمم والثقافات؛ فالجميع يتحدث عن امتلاك ناصية العلوم والتقنيات شرطا للتقدم والتحديث والنمو، والدول كلها تتبنى قيم الحريات العامة وحقوق الإنسان واحترام إرادة المواطن. حتى ولو كانت الجذور الفلسفية والنظرية لهذه المفاهيم تظل غائبة ومسكوتا عنها.
Views: 46