يقول أصحاب المدرسة الشخصانية في الفلسفة إن الأشخاص البارزين يمكن أن يطرأ على حياتهم منحى عكسي إثر تجربة حادة يعيشونها تغير مجرى تفكيرهم من النقيض إلى النقيض، وينطبق هذا القول على شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري، حيث مر في تجربة قاسية غيرت مجرى حياته من الكفر والإلحاد إلى الإسلام والإيمان، ومن التكبر إلى التواضع.
أما التجربة القاسية المريرة فهي ماحدث بينه وبين الشريف الرضي حيث كان يجلس في حضرة الأخير، وأراد ذاك النيل من المتنبي وكان المعري محباً له معجباً به، فلم يتوان عن مخاطبة الشريف بقوله: لو لم يكن للمتنبي غير قصيدة واحدة لكفاه فخراً
قال الشريف: وأي قصيدة؟
قال: القصيدة التي يقول في مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل.. أقفرت أنت وهنَّ بعد أواهل، فأمر الشريف الرضي حجَّابه أن أخرجوا هذا الأعمى ولمَّا أخرجوه قال للحضور: هل فهمتم ماذا يقصد الأعمى؟ والله للمتنبي أجمل من هذه القصيدة بكثير، ولكنه قصد البيت الذي تضمنته القصيدة وهو:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص.. فهي الشهادة لي بأني كامل، وهناك روايتان الأولى: أن أمروا أبا العلاء بالخروج فخرج، والثانية: أن سحلوه سحلاً من قدميه وهي الأرجح لأنه لو أراد الشريف إخراج المعري فقط لأمره بالخروج بنفسه.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فهي الأرجح لأنها شكلت منعطفاً حاسماً في حياة أبي العلاء قادته من التكبر والغرور الى التواضع والموضوعية، فلو كان الأمر سهلاً لكانت قصة الغلام الذي قال له: الأوائل أتوا بثمانية وعشرين حرفاً للعربية أنت ائتنا بحرف واحد فقط، وذلك رداً على قول المعري:
إني وإن كنت الأخير زمانه.. لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل، نقول لو كانت القصة بهذا الحجم الصغير من الإحراج لما غيرت منحى حياته، تماماً مثلما لم تغيرها قصة إحراجه لمّا ثناه الغلام عن غروره بالتوقف قليلاً ثم الاعتراف للغلام بأن ذكاءه سيقتله.
أما وقد كان المعري قبل قصته مع الشريف الرضي يقول:
أفوق البدر يوضع لي مهادٌ أم الجوزاء تحت يدي وساد
قنعت فخلت أن البدر دوني وسيان التقنع والجهاد
ثم بعد قصته تلك انتهى إلى التواضع، فهذا يدلل على أن الرواية الثانية هي الأرجح
يقول المعري متواضعاً بعد هذه الحادثة:
يزورني الناس هذا أرضه يمن من البلاد وهذا داره الطبس
قالوا سمعنا حديثاً عنك قلت لهم: لا يبعد الله إلا معشراً لبسوا
يبغون مني معنى لست أحسنه فإن صدقت، عرتهم أوجه عبسُ
ماذا تريدون لا مال تيسر لي فيستماح، ولا علم فيقتبس
أنا الشقي بأني لا أضيف لكم معونة وصروف الدهر تحتبس
وغير خافٍ على أحد من المطّلعين أن المعري عانى في فترة من فترات حياته من الكفر والإلحاد، وهذا مابدا واضحاً في شعره، وأهم تلك القصائد التي تؤكد هذا المعنى قصيدته الشهيرة في رثاء صديقه أبي الحمزة الفقيه التي مطلعها:
غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي نوح باكٍ ولا ترنم شادِ
وبعد قصته مع الشريف ارتد المعري عن الإلحاد إلى الإيمان، وهذا ما يوضحه قول الشاعر وجيه البارودي:
وأبو العلاء بعقله وبقلبه أسرى بركب العلم وهو ضرير
فرأى الحياة من الجماد تولدت وتوالدت وإلى الجماد تصير
فارتد بعد تشكك وضميره لله أصفى ما يكون ضمير
وفصوله شهدت بها غاياته فكأنها عن شكه تكفير
تشرين
Views: 2