- عفاف يحيى الشب
بداية أقول: الحب منبر السلام، والوئام شعار الكرام، والفرح قصائد هيام، والنفس البشرية تواقة للابتهاج، ونحن نفتش بين دقائق الغضب وحكايا السأم والملل عن بارقة نضرة تشع بالابتسامات بعد أن خسفت توهجات تعابيرنا لتنفذ إلى معابر استيائنا ولا تأخذنا إلى نمنمات سرور تزودنا بمضخات حبور، وترفع عن كواهلنا مرارة الأسى وكل ما تعربش على حياتنا من حزن وغم ونكد وإحباطات.
كم تغنى الكبار منا بعد مضي قطار العمر بأيام الشباب، وكم تغلب عاشق فاشل على بلواه بالذهاب إلى حدائق الابتهاج ليقطف وروداً من تفاؤل يسعفه مما أصابه من حبيب جافاه وتركه على رصيف النسيان والإخفاق مشرداً في عواطفه ومتوغلاً في نكسات الفراق، ومع ذلك يبقى القلب مهما كسرت جوانحه وارتعشت شرايينه ومهما شاخت عروقه وتوارت بعض خفقاته يحلم بيوم صفاء وبساعة فرح تنسيه ما حاصرته الليالي به من أرق وقلق، وما جمدت على شفاهه من ضحكات خجولات.
اليوم سورية التاريخ .. سورية التي دهمتها عواصف هوجاء من بلاد مجنونة تتملكها رغبات جامحات إلى الانتماء للهذيان مفتونة بالشهوات، وبما تجلب لها سرقة الخيرات من ازدهار وثراء من غير عناء مثلها مثل لصوص البنوك والمصارف والمجوهرات الذين يسرقون في ساعات معدودات ما احتوته خزائن المال من مقتنيات الآخرين بلا وجدان ولا عمل ولا رفة عين فيها حياء.
سورية اليوم ومن ست سنوات تعيش أياماً حالكات باغيات طاغيات جائرات داميات منهمرات على أبهى بقاع الكون وأكثر دولة كان شعبها يعيش بحبوحة من أمان وسماوات السلام تخيم على حاراتها ودروبها..على أسواقها وبيوتها وعلى مؤسساتها ورباها..على جبالها الشامخات وشواطئها الزمرديات إلى أن نعق في بوق التفرقة غربان الحقد وأرادوا نهشها في ثوان قاتمات والتمتع بالغنائم والمكتسبات كما يشاؤون ويخططون ويشتهون.
طبعاً هذا الكلام ليس جديداً، وسوريتنا المجيدة العتيدة عاشت حقباً طويلة تقارع أصحاب العقول السوداء الحمقاء المتجذرة في الافتراضات بأن الشعوب تستكين للانتهاكات، وما فييتنام حققت للأمريكيين الأحلام ولا أفغانستان أو باكستان ولا لبنان ولا سورية ولا اليمن ولا روسيا والصين واليابان وكل الدول التي تريد الخلاص من سياسة القطب الواحد الأمريكية الرامية إلى الهيمنة على عالم المليارات من الناس.
اليوم لا يوجد بيت سوري إلا وقد استوطنه الألم المرير من جراء أطفال فقدوا وقتلوا وحرقوا ظلماً وافتراء، ومن بقي حياً يعيش الحرمان يبحث عن أشلاء أمه الممزقة، وعن لقمته الضائعة، وعن أبيه الذي خرج ولم يعد فإما قد استشهد أو خطف أو هرب نازحاً إلى بلدان خططت لإبادته وتشريده.
وأتابع القول: إن ما يؤسف أن الحرب ربما استنزفت قوى البعض فتاهوا بين الواقع المأسوي وتعلقهم بالحياة, فراح قسم منهم إلى إخراج شحنات عالية من الابتهاجات وضخ أموال كثيفة في إضفاء لمسات فخيمة على الأعراس والاحتفاليات الرسمية والخاصة.
قد تكون تلك الظاهرة تفاؤلية تنبض بالرغبة للخلاص مما اختاره اللئام لمكونات الشعب السوري من بؤس وفطام عن كل مظاهر الحياة الكريمة السعيدة، لكن أن تتزامن تلك الاحتفالات مع أضخم الأحداث التي شهدتها حلب وتدمر مؤخراً، فهذا أمر فيه استهجان ما.. والمثير للتساؤل وأقولها بصراحة ممزوجة بين الغضب والأمل في أن نحتضن الأفراح بعيد قدوم الأمان الجليل والسلام القدسي العظيم فهنا الأمر عادل ومتوازن ومقبول..
لكني اليوم أقول بإصرار ونحن نضخ المال والأرواح بكل شفافية وإيمان على ضرورة مراعاة الظرف الخاص بالفرد السوري والوضع العام للبلاد والرابح الأكبر حالياً في تلك الاحتفالات يبقى الفنان الذي لم يكتف بما يحصد من ملايين خلال أيام معدودات، وما تلفه من فراء الشهرة الثمينة خلال اللقاءات، وحصد الجوائز وتكريس البرامج للإشادة بفلانة أو فلان، بل أصبحنا نراه يومياً في فنادق الخمس نجوم يرقص ويتلذذ بأشهى الطعام وتتألق الفنانات بأبهى الثياب وأجمل الإطلالات المبالغ بها أحياناً في تنافس ملحوظ والريح تصفر على الأبواب وأطفال على زوايا الطرقات يرتعشون كالهرة المبللة بمياه الأمطار بينما الكثير من منكوبي الحرب صامدون كالسنديان الذي يقاوم ما استطاع العواصف العاتيات كي لا يقتلع من جذوره المتأصلة في أعماق الأرض بعشرات من الأمتار، وهكذا حال الأجساد الهزيلة والبطون الخاويات المتمسكة بالآمال الباسقات إلى سماء الحق كي لا ينهار واحدهم وهو بلا ثياب ولا دفء أو طعام.
والرحمة قبل العدل والطفل اليتيم قبيل المغمور بالفراش الوثير والجائع قبيل من يجلس حيال موائد عامرة بالمأكولات ليأكل ما يريد ويرسل الباقي إلى النفايات.
وكلمة حق في موضع وجع هي البلسم لكل داء وهي الشفاء من الأنانية والتشارك في الآلام والأفراح ..هي مشاطرة الذين بين أنياب الموت محاصرين وأطنان المتفجرات تدوي في الآذان وكثيراً ما يموت من يموت ويمزق من يمزق وتختلط الدماء مع الأمطار بل تغور لأعماق التراب.
الطبيعة في هذه الأيام أصبحت وفق قوانين الكون غضبى والليل أهوج ومتوتراً وزنوبيا تصرخ على مدى حقب من التاريخ ولهفتاه بينما أورليانوس يرسل قوات حقده على تلك النخلة السمراء التي امتدت بسورية الشام إلى أبعد حدود ووهبت التاريخ والشام مملكة المجد الذي خلدته امرأة ما ارتدت في معظم أوقاتها إلا الثياب العسكرية وكانت تمتطي أجود الخيول للإشراف على التدريبات.
أنا لا أتكلم اعتماداً على المنظور السوداوي ولا الانتقاد بل انطلاقاً من أن الوطن في لحظات الضعف وأيام القهر ووجهه الجميل البهي التقي النقي المشرق الوضاء مشوه القسمات بسبب ما يلحق به من جراء اعتداءات ليست رهناً بهذا الزمن الحاضر والمعاصر، بل يعود إلى مئات السنوات وللاستعمار المتعدد الأقنعة والوجوه كل الغايات في تدمير وطننا وتصديع رواسيه وجباله وتمزيق أواصر علاقاته وإنهاء الحياة الكريمة من جنباته الوارفات.
الاستعمار عرفناه كما عرفه قبلنا أجداد الأجداد أما أن نصرف الأموال لتكريم عمل مهما كان ونبالغ في التبذير فهذا أمر كبير، ومن ثم نكرمهم في احتفال آخر وآخر، فهنا يمكننا أن نطالب باسم كل طفل ومشرد وجائع يرتجف من البرد ويغص من قلة الماء أن يكون المحتفون مع البائسين ويشاركوا أبناء وطنهم كل الأوجاع، لذا عليهم رسالة يتحملونها من خلال عملهم في الفن، وحبذا لو اجتمع الفنانون ممن يحضرون في كل أماكن السهر ويتبرعون ببعض ما يحصدون من أجور لتأسيس دار للأطفال المشردين وللنساء الأرامل غير العاملات أو لإنتاج عمل درامي وطني إنساني يجسد الأزمة ويفرز مشاعر وطنية حقيقية تتلاحم مع منكوبي الحرب حتى لو لم يباع ومجال العطاء لا حدود له.
واليوم.. حبّذا لو تقوم إحدى فناناتنا المحبوبات وأوائل النجمات الشهيرات بمثل تلك المبادرات، وليحمل الفنانون الذين أثرتهم عشرات الأعمال الدرامية في كل موسم، ليحملوا صناديق فيها ثياب شتوية وأدوية وطعام مفيد وشهي لأطفال الخيام والشوارع، وليكونوا عوناً لمن يحتاجون اليوم كل غوث ومساعدة واهتمام.
احتفلوا يا أبطال درامانا على الأقل مع المنسيين من أطفال ونساء وأهالي ضحايا الحرب وكأنهم أهل لكم وأوطان، وأما التكريم فالأعمال الجيدة ندين لها بالاحترام وتكريمها حالياً بمتابعتها من قبل جمهور يقدرهم ويمنحهم إعجابه. ليبقى عليهم واجب التقنين في مظاهر الاحتفالات والسهرات، والاقتصار على تقدير المشاهدين مع جوائز رمزية في احتفالية بسيطة بمظاهرها كبيرة في معانيها على أحد مسارح المراكز الثقافية أو دار الأوبرا السورية، وهذا سيبقى تكريماً محفوظاً لهم في خزائن الوجدان العام، وخلاف ذلك ربما يلاقي الاستهجان والاستنكار ويرفض من كل الفئات والأعمار، وليكن مشوار نجاحهم مكللاً بضخ المشاعر النبيلة في كل مناحي الوطن الجميل الذي يحتاج تشارك الجميع في الآلام والمسرات ومساعدة المتضررين إسهاماً منهم في صيانة حمى البلاد من دون أنانية ولا استعلاء وأمامهم الأبواب مفتوحة لفعل الخير.. فليدخلوها آمنين بسلام.
Views: 0