- لبنى شاكر
نكتشف في الحرب، ما لا يمكن لنا أن نعرفه يوماً، فجأة تتسع مساحة الوطن ليضيق اليوميّ المكرر، ويحدث أن يحصل العكس، حين تعلمنا رؤية الموتى، الاحتفاء مع كل بداية حتى لو كانت نفسها بعد أربع وعشرين ساعة.
هكذا تبدو ست سنوات من الحزن، مثقلة باكتشافات غريبة، كمن يكبر سريعاً في وقت ينمو فيه العالم على مهل، لكن ذلك لا يبعدنا عن يوميات الحرب، بقدر ما يدفعنا لعيشها رغبة بالحياة، أو لنقل حياة مختلفة، لا تنتظر منا التأقلم معها، لذا يأتي السؤال مع الفنان نزار صابور بكثير من المباشرة «في زمن الحرب، ماذا علينا أن نفعل»؟، وتكون الإجابة «ست سنوات نعيشها»!.
يرسم صابور، في معرضه المستمر في خان أسعد باشا في دمشق القديمة، نتفاً مما صار عادياً خلال السنوات الأخيرة، مشرّعاً نوافذ لا حدود للرؤى عبرها، والبداية مع إشكالية الخلاف، الذي يتّسع على حساب ما حوله، في لون رمادي كئيب وأرضية حمراء يؤسسان معاً لرحلة يكثر التخبط فيها.
لا يطول التنبؤ عنده، فالأحمر يجاور الأسود والرمادي، رغم وضوح الفوارق بينها، كأنه يتساءل: «كيف أخطأ الناس الفهم؟»، سرعان ما يكبر الخلاف ويتشعب، وتتسع الهوة بين المتشابهين إلى أن يجمعهم تراب الأرض من جديد، وترتفع نعواتهم «من آمن بي وإن مات فسيحيا»، «انتقل إلى رحمته تعالى»، ولا ندري من الميت، فعبارات رحيله تملأ النعية وتُهمِل اسمه، وسواء أكان مسلماً أم مسيحياً، فهو لم يعد بيننا، واللافت أن تجربة صابور مع النعيات كحالة فنيّة بدأت منذ عام 2011 عبر مجموعة من اللوحات كان عنوانها «نعوات سورية».
ومع أن قبر أحدهم يوحي بوداع لائق رغم هالة الحزن التي ترافقه عادة، لكن ذلك إطراء لا يتاح للجميع، فكثير ممن رحلوا، صاروا أشلاء مزقتها رحى الحرب، فاختلط الأسود بالرمادي وتوزعت بقع الدم، كبيرة وصغيرة، لتلتقي مع مثيلاتها في نشرات الأخبار وأحاديث الناس بوضوح كبير، تضاف إليه تسميتها «أشلاء سورية»، وإن لم ينفِ عنها ذلك صبغة المفاجأة، تلك التي تتملك المتفرج حين يقع نظره عليها، كأنها تخاطبه بفجاجة «هذا أنت».
يترك الفنان واقعيته باتجاه رمزية تشكيلية، يطرق فيها أبواب المحاصرين، مستعيناً بدائرتين متداخلتين، تمتزج فيهما الأشكال حتى تختفي ملامحها، مشيراً إلى آلام دفينة يعيشها آخرون بيننا، ورغم قربهم منا، لكننا نكتفي بالفرجة، ربما أراد صابور أن يشعر متلقيه بشيء من الإدانة، فماذا فعلنا تجاه بعض، أو أين كنا حين كان الآخر حائراً أمام قلة الخيارات!.
يستمر صاحب المعرض بمواجهته مع الآخر، رافضاً مبرراته، لكنه يوجه لوماً مضاعفاً حين يجمع كل ذلك في لوحة تتخذ شكل دفتي كتاب مفتوح، وهي تجربة جديدة على الصعيد الشكلي مع مؤثرات بصرية مختلفة «رماد، زخارف، كولاج»، يستغني فيها عن الوجود المعتاد للكلمات مقابل الصورة «الرسم»، مستخدماً جزئيات منوعة بين اللون والشعر والشكلانية، وكعادته يرفق العنوان، تاركاً حرية قراءة التفاصيل للمتلقي.
أحد ا لكتب/اللوحات، حمل عنوان «أحاسيس قبل الضربة الأمريكية»، وفيه خوف من القادم، لا لفكرة الاستهداف في حد ذاتها، لكن لما تعنيه من دناءة توشك أن تطول طمأنينتنا الداخلية.. وفي أحدها كتب صابور «في الحرب، ننتظر الموت، نؤجل الحياة، أما الحب فنكتشفه أو نخترعه»، وفي أخرى يفصح الفنان أكثر «أيها الموت انتظرني قليلاً، أشتاق لك وللسلام».
تكثر مشاهد الدمار بما فيها من غضب، لكن المدن المنكوبة لا تتخلى عن جمالها، لذا تكثر متتاليات الأبيض والأسود، وتبلغ الفوضى غايتها مع الأحمر وتدرجات الرمادي، كما لو كانت تحكي قصتها وهي تدرك أن القارئ سيركنها جانباً لا محالة.
يتكرر الأسود في لوحات صابور، لكنه يأخذ بعداً جديداً في القلمون ومعلولا، فهو لا يظهر ما أصابها من دمار أو أهوال، لكنه يعود إلى صخرها الأول، كأن شيئاً لم يحدث، أو أن المدن لا تعترف بالطارئ، هي تؤمن بالبدايات الأزلية، لذا تتقارب بيوتها ويختفي أناسها خلف الشبابيك، تاركين لها البوح بما لديهم.
أيضاً يحضر الأسود في أيقونة صحن الزيتون، لكنه لا ينفصل هذه المرة عن غايات أكبر، فكل ما سبق يجمعنا «الموت، الأشلاء، المدن، الحصار»، لكن هناك ما هو أبسط وأقل تنظيراً. يجوز القول: إن هذه البساطة ترافق أعمال صابور، لا لجهة سهولة تقديمها لكن لبحثها عن متلق يشبهها، أتعبته سنوات الحرب، حتى آمن أن السلام فكرة قبل كل شيء، تخطر في الذهن وتغيب، لكن يسهل العثور عليها.
تستكمل «ست سنوات» في الحرب ما بدأه صابور عبر تجربته التشكيلية من تجريب تشكيلي وتقني بحثاً عن عوامل جديدة، تضاف إلى ما سواها من رغبات وأفكار، وهي أيضاً عودة إلى دمشق بعد غياب عن العرض فيها، ربما كان هذا سبب لعرضه 120عملاً أنجزها خلال السنوات الست الأخيرة، عبر مجموعات معنونة، أكد فيها أن الفن ذاكرة للوقت والناس، وليس متعة عابرة.
للسبب ذاته، يملأ السواد أفق لوحاته، يبدو أن صابور متشائم هذه المرة، لكنه لا يرغب بالمواربة أمام زوار معرضه.
تصوير: طارق الحسنية
Views: 0