عندما تحتفل صحيفة «الوطن» بعيد انطلاقتها العاشر، علينا أن نضع السياسة والتحليل جانباً، علينا أن نتجاهل كل الضوضاء من حولنا لنصغي فقط لصوت ما في داخلنا، هذا الصوت ما هو بالحقيقة إلا صوت تراقص الكلمات على الورق.
صوت ربما لن يستطيع كثر الإصغاء له، وحدهم الذين اعتادوا إتقان فن «التفكير على الورق» قادرون على الترنم بأنغامه. هو أشبه بصوت الحق أو أنين المظلومين، تدركه ببصيرتك، لتصبح من دون أن تشعر خليةً من الخلايا البصرية التي تشكل معاً تلك «العين على الوطن».
إذا كانت «الوطن» تحتفل بعيدها العاشر، فإني على المستوى الشخصي أفتخر بأنني جزء منها في النصف الثاني من عمرها. تجربة كنت أظن أن فرحتي بها ستكون مرتبطةً بنشر مقالي الأول أو الثاني أو الثالث على الأكثر، لندخل بعدها بالروتين الاعتيادي الذي يحوّل الكاتب من شخص يضيء على المشاكل ويطرح الأفكار التي تخدم وطنه، إلى شخص يلملم الكلمات لإتمام الجمل والخروج بمقال ما بمعزل عن المضمون، أو القيمة الفكرية للطروحات.
مع الأيام بدأت هذه التخوفات تزول، وأدركت أن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك، لأن من أعطاك الثقة وفتح لك صفحات «الوطن»، ليس عليك أن تبادله بالثقة والوفاء ذاتهما فحسب، بل عليك أن تبادله بما هو أهم في سياق العمل الصحفي، أي المضمون.
لا يمكن لك وأنت تجهز أفكار مادتك الأسبوعية، إلا أن تترك حيزاً من الفراغ وتتذكر القيمة المعنوية والفكرية لمن سيقرأ المقال قبل وصوله للقارئ. العبرة تكمن هنا، في درجة احترامك لهم كقامات صحفية وكأشخاص، ودرجة إيمانك بعملهم. هذا الأمر يحولك من دون أن تشعر من كاتب إلى «صائغ»، يلاعب أدق التفاصيل للخروج بجوهرته الثمينة.
عليك أولاً أن تجلس لتراقب الأحداث لتكون أول من يعقّب عليها أو يكتب عنها، لا أن تتناولها بعد أسبوع من حدوثها. ثانياً عليك أن تدقّق في كل كلمة أو عبارة، لتخرج بفكرة، لا أن تخرج بمجرد حشو، وتضع في مخيلتك صورتهم وهم يقرؤون، لتشعر دائماً أنه عليك أن تكون الأفضل، لأنهم يريدون منك الأفضل. لكن لكي يكون الأمر أوضح، فإننا لا نقصد هنا التدقيق بالعبارات أو الكلمات لأن الأمر مرتبط بهامش الحرية، لأنني لا أذكر طوال هذه السنوات من الكتابة في الصحيفة أن تلك القامات المعنوية أو الفكرية قالوا لي هذا ممنوع وهذا مقبول، هذه شهادة للتاريخ يجب أن نفي المعنيين بها حقهم، علما أنني وعلى المستوى الشخصي لا أعتقد أن هناك أمراً يخص الشأن العام في وطننا لم أتناوله، مدحاً أو نقداً، هذه الثقة الممنوحة راكمت الإحساس بالمسؤولية لدرجة تجعلك تتحول فيها إلى طفل يفرح عند صدور عدد يوم الأحد، تماماً كما الفرح يوم نشر المقال الأول.
بالتأكيد شكلت الصحيفة في السنوات العشر الماضية علامةً مميزة للصحافة المقروءة في سورية، مع أنه لا يخفى على أحد أن الصحيفة تعمل وسط حقل من ألغام الأفكار الخشبية التي كانت ولا تزال ترى في المواطن آلة نستطيع تحريكه وتلقيمه ما نشاء، مع العلم أن التجربة أثبتت أن المواطن في واد ومن يظن به كذلك في واد آخر، تحديداً أن الخط التحريري للصحيفة يعلمك كيف تكون مستقلاً في رأيك حول أي قضية، لكن لا يمكن لك أن تكون مستقلاً عن أوجاع وطنك، عندها لا يكون الأمر مجرد وجهة نظر، الأمر سيكون أشبه بالخيانة المقنعة.
كذلك الأمر نجحت الصحيفة في استقطاب أسماء لها وزنها، وربما أن أي شخص يرى الأمور بتواضع، سيشعر بالفخر مثلاً أن صفحات «الوطن» تجمعه بشخصيات لها وزنها الفكري والسياسي، بمعزل عن الاتفاق من عدمه حول الأفكار المطروحة. هذا المزيج الفكري الذي تحتضنه صفحات «الوطن» ما كان ليكون لولا وجود إدارة مهنية تعي تماماً ماذا تريد من هذه الصحيفة، فلا يمكن لـ«عين على الوطن» أن ترى باتجاه واحد، ومن المستحيل لمن يحمل اسماً بحجم «الوطن» إلا أن يكون بقيمة اسم كهذا.
في المقابل علينا الاعتراف بأن الصحيفة كانت ولا تزال تعاني من مشاكل عدة، لكن النقطة المشتركة بين هذه المشاكل أنها ليست مسؤولة عنها فكيف ذلك؟
للأسف يبدو أن الصحيفة تدفع ثمن سياسة إعلامية فاشلة هي ليست مسؤولة عنها، لكن هناك كثر ينظرون إليها كجزء لا يتجزأ من منظومة إعلامية رسمية. هذا الأمر يبدو واضحاً من ردة فعل القراء على بعض المواضيع المطروحة في الصحيفة، هناك قراء مثلاً لا يصدقون أن مقالات ومواضيع بهذه الحساسية تنشر في صحيفة سورية. إن ضعف ثقة المواطن بكل ما يمت بصلة للإعلام الرسمي (وهذا مبرر بالمناسبة) جعل الأمر ينعكس سلباً في ردة فعل المواطن على كل ما يتعلق بوسيلة إعلامية سورية أياً كانت توجهاتها.
النقطة الثانية، أن المواطن السوري وتحديداً بعد مقتل «رفيق الحريري»، وفي ظل غياب أي نهج إعلامي متكامل، كان ملاذه الأول والأخير هو القنوات والصحف اللبنانية. هذا الأمر جعل المواطن السوري يظن أن هذه الصحف هي منابر وواحات للديمقراطية، وأن أي وسيلة إعلامية سورية هي نسخة مكررة عن الصحف الرسمية التي لا جديد فيها إلا ارتفاع أرقام البطالة المقنعة في العمل الصحفي. بالتأكيد أن السياسة الإعلامية هي التي ساهمت وتساهم في ذلك، لنتخيل معاً مثلاً أن صحيفة لبنانية تكيل الأكاذيب عن سورية ليل نهار، ومع ذلك فإن عناوينها تتصدر برامج الصحافة في سورية!؟ من سينزع من رأس المتلقي أن ليس هناك وسيلة إعلامية محايدة، وإذا كان الأمر مرتبطاً بحرية الرأي، هل هناك صحيفة تنتقد الجهة السياسية التابعة لها بما فيها الصحف المرتبطة بالمقاومة؟!
أما النقطة الأخيرة فهي لا تبدو مشكلة لصحيفة «الوطن» فحسب، بل لكلّ مبدع في سورية، وهي عمليه سرقة المقالات من الصحيفة ونشرها ببعض صفحات الفيسبوك الإخبارية التي تدّعي أنها تدافع عن هم المواطن بمسؤولية (طبعاً هناك كذبة أكبر وهي العمل التطوعي في الإعلام!!)، دون ذكر المصدر، وعندما تتابع التعليقات على المقال المسروق أساساً فإنك تجد من يشكر الصفحة الفيسبوكية على اهتمامها بشؤون المواطن، ويشتم الصحف لغيابها عن المتابعة، والسؤال الذي يطرح نفسه إلى متى سيبقى هذا العبث الإعلامي، من الذي ينصف العاملين في صفحات الشؤون المحلية مثلاً وهناك من لا يذكر أيضاً أسماءهم، كيف سندعم ثقة المواطن بالصحافة الورقية وهو يظن أن الصفحة الفيسبوكية تهتم بشؤونه أكثر من الصحافة المطبوعة؟!
مما لا شك فيه أن ما أنجزته «الوطن» خلال السنوات العشر الماضية يشكل أساساً متيناً ليس للصحيفة فحسب، لكن لكل ما يتعلق بالعمل الصحفي، من الشكل الجميل البعيد كل البعد عن النمطية، إلى العناوين المنتقاة بعناية، لكن في المقابل لابد من القول إنه لا يزال أمامنا الكثير من العمل الذي ينتظرنا، لكن حكما نثق أن القادم أجمل، لأن «الوطن» بالنسبة لنا كما «الوطن»، كلاهما توصيف لمعركتين نخوضهما من أجل إثبات أننا في النهاية لن نكون إلا كما نريد لأنفسنا أن نكون.
Views: 1