|
|
أصدرت مؤسسة «مداد» دراسة تتناول واقع الآثار السورية خلال الأزمة، ومخاطر التعدي عليها والتخريب الذي لحق بها تحت عنوان «الآثار السورية في ظل الأزمة..التحدي والاستجابة»، للدكتور عمار عبد الرحمن، مدير مركز البحث العلمي في المديرية العامة للآثار السورية سابقاً، وعضو الأكاديمية العربية الألمانية للباحثين في مجال العلوم الإنسانية والطبيعية التابعة للأكاديمية الألمانية في برلين، ويعمل حالياً أستاذاً في جامعة «كونستانس» في مجال الآثار الشرقية في ألمانيا.
تضمنت الدراسة تصنيفاً للأسباب التي أدت إلى التعدي على الآثار بهدف تدميرها أو تشويهها أو سرقتها، حيث بيَّنَ البحث أنها تتراوح بين دوافع مادية غايتها المال والربح، وأخرى «تطرّف دينيّ» يوجه سلوك التنظيمات والجماعات المسلحة. كما ترصد الدراسة بقَدْرٍ من التفصيل أهم الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية في أغلب المناطق السورية، بناءً على المعلومات المتاحة، خاصةً في المناطق التي دخلتها التنظيمات الإرهابية، وهو توثيق لا يمكن أن يكون نهائياً حسب د.عبد الرحمن، بل مفتوحاً لمزيد من التحديث والتعديل، بناءً على توافر معطيات حديثة، أو وقوع أحداث جديدة، يقول البحث: «تعد الحروب والمنازعات المسلحة مصادر تهديد مباشر للآثار والمواقع الأثرية في مناطق وقوع النزاع، إذ قد تتعرض للتخريب المباشر والمقصود لأسباب مختلفة، أو غير المقصود، نتيجة وقوع الاشتباكات، كما يسمح اضطراب الأوضاع الذي تتسبب به الحروب، بازدياد عمليات التنقيب العشوائي عن الآثار وسرقتها والاتجار بها». كما تسلط الدراسة الضوء على الإسهامات المحلية والدولية لحماية الآثار السورية، سواء من قبل الدولة السورية، بهيئاتها ومنظماتها المختلفة، أو المجتمع السوري المحلي، وتنبّه إلى ضرورة أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته في الحفاظ على التراث التاريخي السوري، لأنه تراث عالمي، لا يختص بسورية وحدها، بل يرتبط بالحضارة البشرية كلها. ويتحدث د.عبد الرحمن عن التفاعل الحاصل من المجتمع السوري والنخبة ومن الدائرة المعنية المديرية العامة للآثار والمتاحف، وتطورها مع تمدد زمن الأزمة. تتناول الدراسة في بدايتها موقع سورية الحضاري عبر التاريخ، مسلطةً الضوء على سورية ما قبل التاريخ بشكل تفصيلي، وتأسيس المدن في الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد، وحضارات الألف الثاني قبل الميلاد، وممالك عصر الحديد في الألف الأولى قبل الميلاد، والحضارتين المسيحية والإسلامية، حيث تتحدث عن مكانة سورية الثقافية المتميزة مع المكتشفات الأثرية خلال القرنين الماضيين وحتى تاريخه بينت الوقائع الأثرية أنها كانت موطناً للإنسان الأول في تنقله من إفريقيا إلى أوروبا مروراً بآسيا، إذ عثر على أجزاء جمجمة لإنسان «الهوموراكتوس» (العائد إلى نحو 400 ألف سنة قبل الميلاد) في موقع «الندوية عين عسكر» في منطقة الكوم، أما الشواهد الأثرية الحجرية من أدوات وغيرها فقد أشارت إلى استيطان قديم يعود لنحو مليون سنة على النهر الكبير الشمالي ومنطقة البادية في «الكوم» كما في موقع «أم التليل» و«الميرا»، ولاحقاً على نحو 80 ألف سنة قبل الميلاد عند حدوث تطور نوعي في سلالة الإنسان من «الهوموراكتوس» إلى «النياندرتال» وقد كان خير مثال عليها هو الهياكل العظمية الكاملة التي عثر عليها في موقع الديدرية في منطقة «عفرين» شمال-غرب سورية، وتعود لأطفال دفنوا بطريقة منظمة أعمارهم بين 3-5 سنوات. وتتابع الدراسة حول وصول الإنسان لحلقته الأكثر تطوراً، وهي الإنسان العاقل نجده قد بدأ بالابتكار والاختراع وبلغ ذروته عندما توصل للزراعة والتدّجين، محدثاً بهذا نقلة نوعية في حياة الإنسان وقد كانت مواقع «أبو هريرة» و«الشيخ حسن» و«المريبط» و«جرف الأحمر»، من أهم الدلائل على الزراعة والتدّجين والاستقرار، وقدرة الإنسان على وضع بيئة يتحكم بها وقد أمّن مأكله ومسكنه. مع دخول عصور المدنية كانت سورية البوتقة الأكثر إلهاماً لها، حسب الدراسة، فقد ظهرت بوادر المدن الأولى في موقع «حبوبة كبيرة» الجنوبي على نهر الفرات، ولاحقاً بدأت المدن الأولى واضحة في الجزيرة السورية وفي حوض الفرات بشكل أساس، وقد حملت في طياتها ابتكارات حضارية ما زالت تشغل الباحثين وتبهرهم عند كل كشف، فقد تأسست هياكل إدارية على رأسها الأمير أو الملك، تشرف على المؤسسات الاقتصادية من زراعة ورعي وتجارة وحرف وغيرها، وقد كان فائض رأس المال حافزاً لبناء جيش قوي والبدء بالتمدد في الأصقاع الأخرى: لا شك في أن العصور اللاحقة الكلاسيكية قد كانت متميزة بعمارة أبدية باهرة ما زالت آثارها ماثلة حتى يومنا هذا، من «تدمر» حتى «دورا يوروبوس» و«أفاميا» و«جبل خالد» و«بصرى» وغيرها، كما أن أباطرتها قد حكموا روما في أوقات السلام الإمبراطوري، كما «جوليا دومنا» و«جوليا ميزا» و«فيليب العربي». وتشير الدراسة إلى تركز المدن الإسلامية بعد الفتح الإسلامي في المراكز القديمة، حيث بنيت مدن تطورت مع تطور العصور الإسلامية المختلفة، وما دمشق وحلب وحمص وحماة إلا شواهد على جمال وروعة هذه الحقبة من بنيان معماري ضم في جنباته «التكايا» و«البيمارستانات» والمدارس والمساجد والأسواق والحمامات وغيرها الكثير «هذا الزخم الحضاري الذي تعرض خلال تاريخه الطويل لكوارث طبيعية وبشرية، بقي على الدوام شامخاً متحدياً، ولكن يجب القول إن ما تعرض له مؤخراً خلال الحرب على سورية من تخريب ودمار، ربما لم يكن في الحسبان إطلاقاً». وجاء في التوصيات: ضرورة تكوين تلاحم دولي حقيقي يمنع الاعتداء السافر على الآثار في سورية، وتحييدها عن أي شكل من أشكال الصراع على أرض الواقع، لأن مسؤولية التراث السوري هي قضية عالمية بامتياز، وليس من حق أحد أن يتلاعب بها أو يهملها، والضغط على المجتمع الدولي ليأخذ دوره المطلوب في هذا الإطار، ومحاسبة كل من يتقاعس أو يتلاعب في هذا المجال، وإعداد ملف جنائي يجرم كل من أسهم في خراب التراث السوري العريق أو تهريبه، أو المساس به. الدراسة صدرت عن مؤسسة «مداد» في دمشق، وهي مؤسسة بحثية مستقلة تعنى بالسياسات العامة والشؤون الإقليمية والدولية، وقضايا العلوم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والقانونية والعسكرية. |
Views: 6